أطوار الإنسان محاولة للفهم (1)

من تراب الطريق (1012)

أطوار الإنسان محاولة للفهم (1)

نشر بجريدة المال الاثنين 4/1/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

لا تستغنى الدعوات بعامة، والدعوة الدينية الرشيدة بخاصة ـ عن فهم الإنسان الذي تتجه إليه، وفهم نفسيته ونوازعه وأحواله وأطواره، ليس فقط لأن البلاغة هي موافقة الكلام لمقتضى الحال، وإنما لأن الدعوة تخاطب أحياءً اختلفت أفرادهم وجماعاتهم، وتنوعت وتوالت وتتوالى وتتبدل وتتغير أحوالهم وظروفهم وأطوارهم، ويصب ذلك كله في تغيرات لابد أن يتعرف عليها ويفهمها خطاب الدعوة ليتعامل مع واقعها وليستطيع الوصول في هدايته وإقناعه إلى أغوارهم وما يؤثر في عقولهم وألبابهم وقلوبهم ووجداناتهم وضمائرهم .

يعرف المراقبون الدارسون لأطوار الحياة، من المهد إلى اللحد، أن موضوع وسعة انتباه الطفل يختلف عما لدى الصبى والمراهق والشاب والرجل والكهل والشيخ العجوز ـ كما يختلف ذلك الانتباه لدى الإناث عما لدى الذكور. وتختلف في ذلك الأجيال بل وتختلف في مجاميع وأفراد نفس الجيل تبعًا لاختلاف توزيع القدرة على الإدراك والمعرفة والذوق .. ودائمًا يختلف الانتباه تبعًا لوجود الحدس أو الإلهام وعدم وجوده لدى الآدمي .

ويخف شعورنا بهذا الاختلاف ودرجاته بل وينعدم في أحيان كثيرة ـ مع حصول المعاشرة والتعامل واستعمال واستغلال فرص الالتقاء والتجمع والتداول والأخذ والعطاء والتفاهم عن طريق اللغة المشتركة التي يتحرك بها اللسان أو يخطها القلم أو ما يحل محلهما حديثًا أو سماعًا أو قراءةً أو رؤية أو كتابة أو إذاعة أو إرسالاً أو مراسلة .

ونحن في تلهينا أو انشغالنا لا نشعر بقيمة وقوة العلاقات والروابط الدافئة والحميمة راحة وصداقة وأنسًا وحبًا وزيجة وأمومة وأبوّة وبنوَّة وقرابة .. ومن الصعب أن نشعر بقيمتها إلاّ إذا تناسينا اختلافاتنا وتوارت كلية في نظر كل منا خلف تلك المودّات والمحبّات الحارة أو الشديدة الحرارة .

والانتباه الآدمي، وصف عام .. نستعمل مسماه بغير حساب .. مع أنه بعيد عن إدراكنا في كل وقت، ولا نتعاطاه حقيقة إلاّ لحظة بعد لحظة، لمناسبة بعد مناسبة، بحسب وعى كل منا وما اعتاده وما يستوعبه في محيطه من ضرورة أو لياقة أو اهتمام .. فالآدمي تتغير وتختلف قدراته وإراداته باختلاف لحظات يقظته .. فهو ليس آلة ولا يشبه الآلة قط برغم أنه لا يفطن إلى ذلك عادة في تيقظه أيًا كانت قوة هذا التيقظ وسببه .. وعادات كل منا التي جرى عليها وألفها منذ طفولته وعدلها ونماها باطراد على مدى عمره، تحمل عنه عبء وثقل الشعور بتلك الانتقالات التي لا تنقطع .. وهي تطمئن وعيه بقدر من الاستقرار يكفي لإحساسه بأنه ما زال حيًا قادرًا على الحياة معتزًا بتمسكه بها في أعماقه .. ذلك التمسك المألوف لدينا جميعًا .. وبذلك كان تناسلنا وتقاربنا وتجمعنا عبر الأسر والجماعات والأمم والشعوب والأجناس من ألوف ألوف السنين .. إذ الحياة بأنواعها وألوانها بنت زمانها ومكانها .. وهذا وإن كان حده غير معروف لدى جنسنا، إلاّ أنه حتمي التوقع والحدوث لكل فرد منا بلا استثناء، كما أنه محتمل الحصول للجماعات .. وتكرر حصوله في الماضي أكثر من مرة .

فالحياة تكفل طول بقائها بتوالى الوجود والزوال لأفرادها الذين لا حصر لهم .. وهم بنية الجماعات البشرية وعُمُد الأسر والقرابات والأنساب .. يبدو ذلك ما دامت الحياة وجدت مأواها وميدانها ومحيطها .. وهذه الظروف حتمية التغير إيجابًا وسلبًا .. إيجابًا بتعلق البشر بيقظتهم جملةً وترابطهم وترقى وتطور العديد منهم، وسلبًا بخمول وركود معظمهم وسيادة التأخر فيهم وانحطاط الصفات البشرية في جماعاتهم .. يحدث ذلك عندما تعجز قوتهم القليلة المستنيرة عن إيقاظ كثرتهم الساحقة التي تستيسر القلة القوية استغلالها فيما تريد استغلاله بغير مبالاة بما عليه هذه الكثرة من انسحاق، وما تعيش فيه من تعاسة وتخلف وبؤس وشقاء !!