أطفالنا!

أطفالنا!

نشر بجريدة الوطن بتاريخ 3/9/2021

بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين

دون إنكار لما تقوم به الدولة في السنوات الأخيرة من معالجة رائعة لمشاكلنا من الجذور، ومنها مشكلة العشوائيات، ومشكلة الفقر، إلا أن تراكمات سنين طويلة لن تُحل في غمضة عين، وظني أنه يجب على القادرين في المجتمع أن يساعدوا الدولة في جهودها الإصلاحية، وأن يبذل كل منهم قصارى ما يستطيعه لحل مشاكلنا القديمة المتجذرة، وتهيئة مصر إلى مستقبل مشرق صبوح.

أعرف من حال الفقر المدقع في مصر، ما دفعني إلى كتابة عشرات المقالات عن مخاطر هذا الفقر، ومخاطر اتساع الهوة الضخمة أصلاً بين الأغنياء المتنعمين، وبين الفقراء الذين لا يجدون ما يقتاتون به، وينامون حيث يقضون حاجاتهم، ويشربون من حيث تشرب الكلاب والبهائم، تتلاحم أجسادهم وأنفاسهم في المقابر والعشوائيات حتى ارتدُّوا إلى ما يشبه الحيوانية وتفشى بينهم زنى المحارم!

وأعرف من حال أطفال الشوارع ما دفعني إلى كتابة عدة مقالات عن الطفولة المشردة الهائمة بين الخرابات ومقالب الزبالة، نُشرت تباعاً عام 2007، وأعدت نشرها بكتاب: «الهجرة إلى الوطن» (كتاب الهلال نوفمبر 2007)!!

جدد الأحزان من سنوات، مع قرعات الأجراس، عنوان صافع حملته بعض صحف الأربعاء 29-6-2011، نقلاً عن تقرير للخارجية الأمريكية «مليون طفل مصري يتعرضون للاتجار بغرض السخرة والجنس والتسول»!!! «الاضطرابات السياسية زادت معدلات الاتجار بالبشر»!!!

أورد التقرير الأمريكي السنوي عام 2011 عن «الاتجار بالبشر» أن هناك ما قد يصل إلى مليون طفل مصري من «أطفال الشوارع» من الفتيان والفتيات، الذين يتعرضون للاتجار بالجنس والتسول القسري، الذي تمارسه بعض العصابات المحليّة، حتى صارت مصر آنذاك «مقصداً» للنساء والفتيات والأطفال الذين يتعرضون لظروف العمل القسري والاتجار بالجنس!

وليس الذين يعملون تحت السن بالمزارع والبيوت أوفر حظاً، أو أكثر أماناً مما يتعرض له أطفال الشوارع والخرابات ومقالب الزبالة، فالتقرير كشف عن أن من يتم دفعهم للخدمة في البيوت أو العمالة الزراعية، يواجهون قيوداً حادة وانتهاكات متعددة، ما بين تقييد التحرك فيما يشبه الأسر، أو عدم دفع الأجور، أو اغتيال ذويهم لها، فضلاً عن الاعتداءات والتهديدات البدنية، أو الاعتداء الجنسي!

وتحدّث التقرير عام 2011 عما بات معروفاً للجميع، عن قيام بعض الرجال الأثرياء من بعض الدول بالسفر إلى مصر لشراء زوجة مؤقتة من الصبايا، أو ما يسمى بالزواج الصيفي، لفتيات صبايا تقل أعمارهن عن الحد الأدنى للزواج مع تسهيلات من باعوا ضمائرهم من الموثقين أو محرري الزيجات العرفية وعصابات تزوير شهادات الميلاد لزوم صفقات الزواج.. هذه الصفقات التي دخل فيها الآباء والأمهات بائعين بناتهم بالدراهم والدنانير والدولارات، وسرعان ما يعدن إلى مصر بعد شهور وقد حملت بعضهن أجنّة في أرحامهن، ثمرة للمتعة التي حصل عليها الشيوخ من الصبايا لقاء الدنانير والدولارات، ثم تتحمل مصر عبء هؤلاء المواليد الذين يتعرضون للضياع، وتضيف مصر إلى أحمالها التي تئن بها أصلاً أحمالاً جديدة بلا عقل ولا منطق.. جرفنا إلى ذلك قانون الجنسية الذي صدر عام 2004 برقم 154 تحت ضغط هواة لا يحسنون شيئاً وفرضوا كلمتهم في كل شيء، ومر القانون بالمجلسين البرلمانيين رغم ما أطلقناه من تحذيرات من توابع هذه الكارثة التي تشجع الآباء والأمهات على بيع بناتهن، حيث أعفاهم القانون، كما أعفي شيوخ الثراء، من تبعة ما تقذف به هذه النخاسة اللاإنسانية من مواليد لا يبالى بهم الأب المتمتع، ولا تحسن الأم التي بيعت كالبهائم تربيتهم وتنشئتهم!!

هذا الجو الفاسد الموبوء الذي شاع آنذاك، قد شجع على اتخاذ مصر آنذاك سوقاً لترويج النخاسة والاتجار بالجنس وبالأطفال. أورد تقرير الخارجية الأمريكية أن مصر أمست بلد المقصد للنساء «العراقيات» لممارسة الأساليب غير المشروعة، كما صارت «معبراً» للاتجار بالنساء من أوزبكستان ومالدوفيا وأوكرانيا وروسيا، وغيرها من بلدان أوروبا الشرقية، وكشف التقرير أن إسرائيل تقوم بممارسة تجارة البشر، وتقدم على تهريب «العاهرات» من خلال الحدود المصرية المشتركة معها، لاستغلالهن في التجارة الجنسية.. وسكت التقرير الأمريكي عن الإشارة إلى مهام أخرى يضطلعن بها في اختراق الأمن القومي لمصر والمصريين!!

ولكن التقرير الأمريكي في المقابل تحدّث عما نتحرج نحن من الحديث فيه.. فقال إنه أسهم في تدنى معايير مكافحة الاتجار بالبشر في مصر الاضطرابات التي عمّت البلاد في أعقاب أحداث يناير 2011 وما لابسها من انتشار فوضى اختلط فيها الحابل بالنابل، وتداخل الأغراض والمآرب، ونحن لاهون عما يجرى لأطفالنا وفتياتنا اللائي عضّهن الفقر والجوع فصرن سلعة في سوق الجنس والنخاسة.

قرأت من عشر سنوات تحقيقات صحفية أثارت شجوني، روى بعضها أقاصيص وسطاء يعتدون جنسياً على الفتيات، بهدف «التجريب» قبل الأزواج الأثرياء، والصفقات تتم داخل «دكاكين» و«أكشاك».. ويروى أن هناك قرى تعيش على ظاهرة تزويج القاصرات بأثرياء عرب، فالسيناريو المعروف يبدأ من سائق من سكان إحدى القرى يذهب إلى المطار، ويلتقي الأثرياء القادمين لتوهم من الخارج، ويبدأ في عرض الصفقة، فإذا قبل الثرى القادم، يأخذه إلى قريته ليعرض عليه الفتيات القاصرات، حيث يتم استكمال الإجراءات لمن يقع عليها الاختيار، وتتم الصفقات في الغالب بعقود عرفية وهذه في الواقع دعارة مقنعة! فشرط ديمومة الزواج معدوم، وتُعقد زيجات من لم يبلغن سن الزواج لدى مأذون مزور باع ضميره! أو يتم الزواج بعقد عرفي ما هو إلا ستار لاغتيال الفتاة الصغيرة تحت مظلة القانون!

لا تمتد الزيجات الوقتية أكثر من 10 أو 15 يوماً، يقضى فيها الشيخ العجوز وطره، ويترك الصغيرة إلى مصيرها، بعد أن نفض العجوز الشاري يده من الصفقة، يعيش ناعماً في بلده بعد أن أشفي غلمته، وعلى الصغيرة إذا حملت! أن تخوض معركة لإثبات نسب طفلها بما استحدثه القانون رقم (1) لسنة 2000 لمعالجة هذه الكوارث!

أعادتني «الأنباء المتفجرة» سنة 2010، إلى قصة قانون الجنسية 154/ 2004 الذي قاومت إصداره بكل ما أستطيع لدى مناقشته بمجلس الشورى، ولكن الرئيس الأسبق مبارك، وكذا وزير الداخلية آنذاك، تخليا من مقاومتهما لمشروع ذلك القانون، فصدر بمنحة غير بصيرة أسقطت كل حوائط اعتراض الأهالي على بيع بناتهن بالثمن لطالبي الشراء.

فإغراء المال، مع شدة وحاجة الفقر، يدفع أمثال هذه الأسر إلى هذه البيوع التي تُغتال فيها براءة الفتيات الصغيرات، ويبرر الآباء هذه الجريمة لأنفسهم بأن العلاقة زواج شرعي، موثق أو عرفي، وأنه لا بأس إذاً ولا مخالفة للشرع والدين!!

الشيء الذي كان قد بقي آنذاك لإيقاظ هؤلاء السذج من غفلتهم أن يدركوا خطورة المشكلة التي يتركها لهم الشاري الهارب، المتمثلة فيما أنجبه وطار، وأنها مشكلة خطيرة عسيرة الحل، تتفاقم مع الأيام إزاء الجنسية التي لم تكن تعطى إلاّ برابطة الدم، وهي السياسة المتبعة في كل الدول التي تعانى من انفجار سكاني وزيادة في أعداد المواليد عن قدرة المجتمع على الاستيعاب في الطعام والشراب والصحة والتعليم وباقي الخدمات، بينما نترك الأب المسئول عن جنسية وليده متخففاً من كل أعبائه ومسئولياته!

قلت يومها إن المصالح العليا للبلاد تعلو الدساتير، لأنه على أساسها تتم صياغة الدساتير بما يناسب كفالة هذه المصالح العليا، وأنه في هذا الإطار تختلف السياسة العليا والدساتير في دول العالم تبعاً لهذه المصالح المستمدة من نسبة سكانها.. وأنه من سوء السياسة وعماء التقدير أن نفتح باب الجنسية لكل مولود لأم مصرية بينما نعانى من الانفجار السكاني ومن سوق النخاسة الذي تناولته تصريحاً لا تلميحاً، وزدت عليه يومها بسؤال صادم: ماذا لو أعقبت مصرية من الجنرال شارون أو نتنياهو؟! هـل نعطى الوليد الجنسية المصرية؟!!

 

زر الذهاب إلى الأعلى