أحوال الإنسان في رحلة الحياة (2)

من تراب الطريق (1052)

أحوال الإنسان في رحلة الحياة (2)

نشر بجريدة المال الأربعاء 3/3/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

لم يعد يشغل التفاتنا وتفكيرنا واجتهاد عقولنا وقيامنا وقعودنا ويقظتنا ونومنا ـ إلاّ موجات هائلة تتوالى باطراد لا يكل ولا يمل.. تستأثر بنا عيوننا وآذاننا وشهواتنا ومطامعنا الجائعة المسعورة باستمرار ـ في محيط صاخب دائمًا.. تتزاحم فيه أصناف الخلق ذكورًا أو إناثًا صغارًا وكبارًا.. ليلاً ونهارًا مع ما لا يتصوره عقل العاقل من الآلات والأدوات والمبيعات والزحام في آلاف الطرقات والميادين والمحلات والنوادي والملاعب والملاهي والأرصفة والمحطات والمواني والمطارات !.. كأن البشر هم الذين خلقوا الدنيا بأسرها !

فلم يعد فينا إلاّ النادر جدًّا جدًّا الذي يلتفت نحو الرب تبارك وتعالى التفاتاً جادًا.. يخشاه دون أن ينساه لحظة.. يدهشه بينه وبين نفسه اندفاع الناس المخبول في الجنون والغفلة والأنانية التي لا يعرفون لها حدًا يحدها.. يملؤهم تيهًا وغرورًا كثرة ما تعلموا وقرأوا وألفوا وبلغوا وحللوا واكتشفوا وأثبتوا ونفوا وعلموا وارتقوا وتماسوا وحكموا وقادوا . وهذا كله قبض ريح عاصف يعصف بدنيانا.. لأنه أصلاً تفكيك وبعثرة وتمزيق وتشتيت.. يطرد ولا يجمع.. ويفرق ولا يضم، وينفر ولا يلحم.. فهو في أعماقه وجذوره هدم محصن بعيد كل البعد عن الإنسانية الصادقة الحقيقية . لم ينج فيه من الآفات وشدة الأنانية إلا نادر النادر من عظمائه وأعلامه !

فهل يمكن أن نفارق فراقاً لا رجعة فيه هذه المرحلة التي مازلنا نعيشها مع امتلائها بالخلط والخطيئة والخوف والخروج والخراب كما فارق من سبقونا آباءنا الأول وخرجوا من مرحلتهم الحيوانية الهمجية ؟ هذا سؤال يمكن أن يجاب عليه بالإيجاب لا النفي، إن زادت معرفتنا بما نحن فيه رؤية وعمقًا في التبصر والفهم !!

ونحن عادة لا نفرق بين اعتقادات كل منا الفردية، وهي لا أول لها ولا آخر، وبين العقائد المشتركة لكل جماعة دينية أو اجتماعية أو أخلاقية.. وهذه الكيانات محدودة العدد لكن تنفيذ وأثر كل منها لدى كل فرد منا مختلف.. فالفرد لا يبالى في الأعم والأغلب بهذا الاختلاف أو ذاك، لأنه يتجاهل الفروق الهائلة، ويتصور أن الكل لائق وواجب ومسلّم به لا يحتاج لبحث يجهد نفسه في تحريه . يغلب هذا على تصرف الناس لأن أغلبهم لا يرحب بالتدقيق في صحة كل ما عندنا مما اعتدنا على التسليم به.. إذ هذا التسليم فيه اقتصاد وراحة للنفس لا نفرط فيهما إلا فيما يلزم الآدمي أو يجبر عليه ولا يجـد منه مفرًّا !!

فالآدميون لا يبنون حياة كل منهم على خط ثابت معروف النظام والأوقات والمواد، وإنما يبنى كل منهم حياته على ما اعتاده من المعتقدات التي يظن على قدر ما عنده من المعرفة أنها لائقة بمكانته ووقته وحاله هو من اليسر والعسر وظروفه الاجتماعية والاقتصادية وعمره وصحته أو اعتلاله وحضارة جماعته وقربه منها أو بعده.. وهذا فيما يبدو هو سبب انتشار وسعة ما تتطلبه حياة الآدمي في نظره هو ـ عن غيره من الأحياء، واعتزازه بهما على ما يعرفه عن تلك الأحياء التي يراها دونه بمسافات!.. فنحن لا نقتصد في قسوتنا أو في ازدرائنا للأحياء الأخرى.. اللهم إلاّ ما نقتنيه من الحيوانات والطيور للزينة أو للإيناس، أو نعده للمضاربة والمسابقة، أو نستخدمه في الحراسة والصيد !!

فحياة الآدميين على هذه الأرض منذ بداية وجودهم، هي وحدها التي خولت لهم مكابدة الاحتمالات التي لا يكاد يعرف لها حد والإمكانات الغريبة العجيبة التي تجود بها عقولهم وخيالاتهم وأوهامهم.. ذلك إلى معاناة الآلام والأحزان والحرمان والحسرة واليأس وارتكاب الأخطاء والذنوب والآثام ـ التي تظهر ثم تختفي لدى كل حى منا ـ لتعود إلى الظهور أو لا تعود بحسب المقادير والحظوظ . كأنما خلقنا للتجربة والاختبار والاختيار.. لا نملك أن نحكم على سبب مجيئنا لهذه الدنيا ولا على ضرورة ترك كل منا لها في حينه ـ لأن معنا الأنا فقط ومعنا ـ مع العقل ـ الشهوة والطمع !

زر الذهاب إلى الأعلى