أحكام وضوابط اللغتين القانونية والتشريعية

[ فصول في "اللُّغتين القانونية والأصولية "(الفصل 20) ]

بقلم/ الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني

[المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية ]

تخيل لو تفاصح أحدُ القانونيين وقال: إن “الإعدام” -الوارد في نص المادة (4) من قانون العقوبات المصري: “كل محكوم عليه بالإعدام يشنق”- يعني: “فقد المال”، أو أن “الشنق” في نفس المادة السابقة يقصد به: “التعليق” فحسب دون ما يترتب عليه من آثار قانونية جِماعها إزهاق روح من حُكم عليه بالإعدام، طبقا للتفسير القانوني المستقر عليه..؟!!

بالطبع لن يكون هذا إلا ضرب من التعسف في التفسير والتنكب في الفهم ، واستعداء للغوي على ما هو قانوني وهدم للقانوني بما هو لغوي … !!!

ومن ثم توجب أن يوجد علم يقوم على دفع هذه الإشكالات ووئدها بفهم لغوي صائب وضبط قانوني محكم ، ولا ينهض بهذا الدور إلا اللغةُ القانونية وأحكامها التي تتوازن فيها قواعد اللغة العربية التراثية بسننها وطرائقها في الإيراد مع القواعد القانونية المستقرة سواء أكانت قواعد تشريعية أم قضائية أم فقهية .

وهنا تتجلى أهمية “أحكام اللغة القانونية والتَّشريعية” في ضبط وتنظيم عمليات سنها ووضعها وفي إنشاء أوراقها القانونية والقضائية لتنظيم المجتمع ولتسيير مرفق العدالة ولحماية الدولة والقيام بوظيفتها، ولو لم تكن هناك أحكام ضابطة وقواعد منظمة لوقعت الفوضى في البناء وتبعتها فوضى لاحقة في عمليات الفهم والتفسير، ولاختل النص التشريعي في بنيانه وفي دلالته.

وكذلك القانون باعتباره علما اجتماعيا مستقلا لا يمكن تصور لغته وهي (اللُّغة القانونيَّة المتخصصة) بلا أحكام أو ضوابط وإلا تسقط مبانيها وتنحل معانيها لتكون ضربا من اللغو بما يعني أن:” اللُّغة القانونيَّة نظام متماسك من المبادئ والقواعد والتنظيمات، يستمد مكوناته من مصدر قانوني مفرد أو مصدرين رئيسين قانوني لغوي أو لغوي قانوني أو من جملة مصادرها الخمسة العامة القانونية واللغوية والأصولية والمنطقية والاجتماعية مفردة أو مجتمعة”، ومن هذه المصادر تستمد الأحكام والمبادئ والتنظيمات. وهذا بعض إيضاح لبعض ما سبق في الآتي:

 

(1) ماهية أحكام اللُّغة القانونيَّة وطبيعتها

يعرف الحكم في اللغة أنه (القضاء والفصل والبت) قال الفيومي: “(ح ك م): الْحُكْمُ الْقَضَاءُ وَأَصْلُهُ الْمَنْعُ يُقَالُ حَكَمْتُ عَلَيْهِ بِكَذَا إذا مَنَعْته مِنْ خِلَافِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ وَحَكَمْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ فَصَلْتُ بَيْنَهُمْ فَأَنَا حَاكِمٌ وَحَكَمٌ بِفَتْحَتَيْنِ وَالْجَمْعُ حُكَّامٌ وَيَجُوزُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ» [المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 145).] .

وهو اصطلاحا: ” إيقاع نسبة بين شيئين أو رفعها سواء كان نتيجة إدراك حسي مباشر أو نتيجة برهان [وقال ابن حزم: “الحكم والاعتقاد هو استقرار حكم بشيء ما في النفس إما عن برهان أو اتباع من صح برهان قوله فيكون علما يقينا ولا بد وإما عن إقناع فلا يكن علما متيقنا ويكون إما حقا أو باطلا وإما لا عن إقناع لا عن برهان فيكون إما حقا بالبحت وإما باطلا بسوء الحد « الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/ 39)]

وهو عند المنطقيين: إسناد أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا [د. جميل صليبا: معجم المصطلحات الفلسفية 1/ 489، وانظر الجرجاني: التعريفات ص 92 .]

والحكم كثير الموضوعات: هو الحكم الذي تحمل فيه صفة واحدة على عدة موضوعات سواء كانت مفترقة أو مجتمعة في اسم كلي واحد، وهو ضد الحكم البسيط الذي موضوعه شيء جزئي، ومثل الحكم المهمل الذي لم يبين فيه إن الحكم في كله أو في بعضه كقولنا: الدم أحمر[السابق ].

وقد يقصد بالأحكام أيضا مقتضيات المبادئ القانونية أو مقتضيات النظام القانوني اللغوي، ويمكن تعريفها أيضا بحسب نظريتنا في اللغة القانونية بأنها: « جملة المبادئ والتنظيمات اللغوية القانونية التي يجب ثبوتها أو نفيها لبعض أو كل إجراءات وعمليات بناء القاعدة القانونية ولغاتها (الرسمية والبنائية) وفهمها وتفسيرها في سياقاتها الكتابية أو الشفاهية“.

وأحكام اللغة التَّشريعية وتلك القانونية وأوراقها هي مبادئ وقواعد وضوابط وتنظيمات قانونية ثم لغوية تتعلق بكافة ما يتعلق بالتقنين الشرعي والوضعي ، وبسن التَّشريعات وتنظيم الأوراق القانونية والقضائية وتلك الرسمية وهي أيضا أحكام لازمة ومتوجبة في كافة إجراءات وعمليات التقنين الشرعي أو التشريعي أيا كانت مسمياتها ومفاهيمها .

(2) أمثلة توضيحية على الأحكام السابقة

يمكننا إيراد هذين المثالين لتوضيح ما سبق:

 المثال الأول: تقضي القواعد البنائية للُّغة القانونيَّة الرسمية أو التقريرية في مرحلة الاختيار الالتزام بــ “مبدأ الوضْعيَّة اللفظية»، أي: بوجوب استخدام الألفاظ في معناها الوضعي لا المجازي، وفي معناها الاصطلاحي لا التقريبي وخاصة في لغة القاعدة القانونية الدستورية والتَّشريعية، وكذلك في اللغة الرسمية إلى حد كبير مثاله : “كل محكوم عليه بالإعدام يشنق“[ المادة (4 ) من قانون العقوبات المصري .] .

مفردة « الإعدام » هنا لا تخرج في تعبيرها – وعلى ذلك يجب فهمها – عن معناها اللغوي الوضعي وهو «الفقد» والهلاك، كما قال ابن فارس :» (عَدَمَ) الْعَيْنُ وَالدَّالُ وَالْمِيمُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى فُقْدَانِ الشَّيْءِ وَذَهَابِهِ. مِنْ ذَلِكَ الْعَدَمُ. وَعَدِمَ فُلَانٌ الشَّيْءَ، إِذَا فَقَدَهُ» [مقاييس اللغة (4/ 248)]

 وعليه فلا يجوز بحال أن يفهم من الكلمة تلك المعاني المجازية مثل : فقد المال ، فالعديم فاقد المال ، والإعدام فقد المال مثلا ، فيُحمل المعنى على الغرامة أو المصادرة ومن ثم يحتجُّ القاضي أو الدفاع بهذا المعنى ليحول بين تحقيق الهلاك بالشنق ويعدل إلى تحقيق العدم بالمال متذرعا بما يدل عليه المعنى المجازي فيما يقوله ابن فارس أيضا :» وَأَعْدَمَهُ اللَّهُ – تَعَالَى – كَذَا، أَيْ أَفَاتَهُ. وَالْعَدِيمُ: الَّذِي لَا مَالَ لَهُ; وَيَجُوزُ جَمْعُهُ عَلَى الْعُدَمَاءِ، كَمَا يُقَالُ فَقِيرُ وَفُقَرَاءُ. وَأَعْدَمَ الرَّجُلُ: صَارَ ذَا عَدَمٍ. وَقَالَ فِي الْعَدِيمِ:

وَعَدِيمُنَا مُتَعَفِّفٌ مُتَكَرِّمٌ  وَعَلَى الْغَنِيِّ ضَمَانُ حَقِّ الْمُعْدِمِ

وَقَالَ فِي الْعَدَمِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ :

رُبَّ حِلْمٍ أَضَاعَهُ عَدَمُ الْمَا  لِ وَجَهْلٍ غَطَّى عَلَيْهِ النَّعِيمُ.

 

المثال الثاني : في النطق الصحيح والأداء الفصيح للُّغة القانونيَّة. هناك أعمال قانونية شفاهية ينبغي القيام بها على نول اللغة العربية التراثية ونسيجها من مثل أعمال (تلاوة القوانين والنطق بالأحكام والمرافعات القانونية..) إذْ ينبغي فيها كأصل عام أن تجري على سنن اللغة العربية التراثية وعلى الصحيح من قواعدها وهو ما ندعوه بالسلامة اللغوية والصحة الدلالية، ونعبر عنه كذلك بـــ “النطق الصحيح والأداء الفصيح للغة القانون « وهو ما يتوجب إقامة الميزان وهو ليس ميزان العدالة هنا وإنما هو الميزان الصرفي القانوني لكلمات اصطلاحية قانونية طالما يقع فيها الخطأ من مثل كلمات (ولاية – نقابة – وكالة- نظارة ) فإقامة ميزانها الصرفي واجب لغوي قانوني يدلُّ على تمكن القاضي وعلى جدارة الدفاع وعلى صحة الإصدار التَّشريعي، وبهذا الميزان الصرفي الصحيح يمكن ضبط نطق الكلمات من خلال:

أ- الأدوات اللغوية الصرفية.

ب- تعيين القواعد القياسية لنطق الكلمات القانونية (أو بالقياس على الكلمات المعتمدة ، كأن أقول نِقابه مثل كِتابة حال كانت اسما ونَقابة مثل كَفالة حال كانت مصدر) وأمثلة ونماذج كثيرة ليس هذا مكان إيرادها.

(3) لزوم الأحكام اللغوية القانونية :

ووجه لزوم الأحكام القانونية حال لزومها يكمن في الحفاظ على نظام اللُّغة القانونيَّة في الاتصال بين المخاطبين بحسب الرموز المتعارف عليها بين جماعة المخاطبين بها ، هذا على الإجمال أما على التفصيل فإن نفاذ الأحكام لازم وحتم للأسباب الآتية:

أولا: لإقامة البناء اللغوي القانوني على الوجه السليم، ولتحقيق السلامة اللغوية القانونية للقاعدة القانونية ونصوصها أو للغات القانون الرسمية والبيانية.

ثانيا: لارتباطها بالمعنى والدلالة القانونية أو لتحقيق المعنى الصحيح وإحداثه للأثر المطلوب في عمليات خلال فهم وتفسير القاعدة القانونية ونصوصها، وفي فهم تفسير لغات القانون الرسمية والبيانية.

ثالثا: لارتباط هذه الأحكام مباشرة بالنطق الصحيح والأداء الفصيح للُّغة القانونيَّة.

رابعا: لإقامة الخطاب القانوني على وجهه وهو نوع من أنواع اللُّغة القانونيَّة الرسمية والبيانية وله أدوار خطيرة في سياسة الدولة وتسيير المرافق العامة وفي التواصل مع الشعب بطريقة صحيحة تضمن الاستقرار الاجتماعي والأمن الوطني .

خامسا: لزوم الأحكام يتأتَّي للحفاظ على جوهر القانون (وجوهره هو قاعدته القانونية التنظيمية) فمضمون القاعدة القانونية يتحدد ببنيانها المحكم الذي يترتب عليه تفسيرها مع الحفاظ على مدلولها في ضوء ما إرادة المشرع ومقاصده، والخلل الذي يقع في هذا كفيل بإسقاط غاية القاعدة القانونية وبتسريب التأويل إليها والثغرات عليها بما يناقض غاية القانون في حماية الحقوق ورعاية المصالح عن الانتهاك والضياع.

سادسا: يتحتم لزومها أيضا للمحافظة على البناء القانوني النظري في مؤسساته والعملي في أجهزته وإداراته، ولا يخفى ما للُّغة القانونيَّة من أدوار في تسيير المرافق العامة وفي تنظيم التواصل والاتصال بين السلطات والمؤسسات والأجهزة القانونية بخاصة وأجهزة الدولة بعامة.

ولهذه الأحكام أيضا تنظيماتها من حيث:

1-الوجوب والمنع والجواز، بحسب سياقها ومساقها..

2- الاطراد في سن التَّشريعات وفي صوع ونظم قواعدها القانونية، وكذلك في إنشاء الأوراق القانونية القضائية وعموم الأوراق الرسمية .

3- المضي على سنن واحدة في ضبط وتنظيم اللغات القانونية الرسمية والبيانية.

4-التنوع ما بين أحكام كلية تحمل فيها صفة أو ضابط واحد على جميع الموضوعات والمسائل (مجتمعة أو متفرقة)، أو على بعض الضوابط دون بعض أو على عدة مسائل مجتمعة أو مفترقة..

كل ذلك لإعمال نظامها ثم لتحقيق غايتها ومنفعتها القانونية فيما أراده الشارع وقصده، ومن الأمثلة الجلية على ذلك ما أسلفنا ذكره -في المقال السابق- في قولنا “إنها واقعة جلل يشيب من هولها الولدان، وتقرع لها الآذان، وتقشعر من خطبها الأبدان، وتحمل المجتمع أن يومض لها بسيف يحسمها، وعاقبة تؤثمها”، وتساءلنا عن جواز استخدام المشترك اللفظي والسياق المجازي والأسلوب المترع بالتحسينات والفنية واللفظية في اللغة التَّشريعية وأجبنا بأنه يجوز استعمال هذا الأسلوب وأمثاله في اللغات البيانية مثل لغتي الادعاء والدفاع في معرض الحديث عن واقعة قانونية معينة لأنها لغات إقناعية وهي أكثر ما تكون لدى الادعاء أو الدفاع على نحو ما سبق ذكره.

 

زر الذهاب إلى الأعلى