أثر الخلط بين الثابت والمتغير على قضية التجديد
بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين
من تراب الطريق (1191)
نشر بجريدة المال الخميس 30/9/2021
الإمام الطيب والقول الطيب (23)
ترتب على آفة الخلط بين الثابت والمتغير ، آفة الخلط بين ما يعد تشريعًا عامًّا وما لا يعد كذلك ، وقد فصل الفقهاء الثقات فى هذه المسألة ، وميزوا بين الحكم المراد به الاستمرار ، وبين الحكم الظرفى أو الوقتى تبعًا لظرف معين أو وقت معين ، ومن هؤلاء , فيما أشار الدكتور الطيب , الشيخ محمد مصطفى شلبى فى كتابه الضافى « تعليل الأحكام » ، والإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت فى كتابه « الإسلام عقيدة وشريعة » ، وفيما أبداه ونقله الأستاذ الدكتور عبد الحميد متولى فى كتابه « أزمة الفكر السياسى » ، وأيضًا فى كتابه « مبادئ الحكم فى الإسلام » ، ولعلى أضيف ما كتبه فضيلة الشيخ الدكتور « محمد عبد الله دراز » فى أكثر من مؤلف من مؤلفاته ، والبحث العميق الذى كتبه أستاذنا الشيخ عبد الوهاب خلاف بعنوان « مرونة مصادر التشريع الإسلامى » المنشور بمجلة القانون والاقتصاد التى تصدر عن كلية الحقوق جامعة القاهرة ـ عدد أبريل/ مايو 1945 ، ويتصل بذلك ما كتبه فى الاجتهاد الشيخ عبد المنعم النمر ، وأستاذنا الجليل الدكتور محمد سيد طنطاوى الإمام الأكبر السابق .
ومن سوء الفهم ، ومن أزمات التجديد ، عدم التفرقة بين الشريعة وبين الفقه ، فالشريعة هى الدين الذى أنزله الله تعالى ، والفقه فهم بشرى واجتهادات بشرية ، ولذلك فإنه لا يصح فى البداهة والأفهام إنزال الفهم البشرى منزلة الشريعة ، واعتبار شروح وآراء العلماء هى هى الشريعة أو من الشريعة ، وإضفاء عصمة لها كعصمة النص القرآنى أو النبوى ، فذلك خلط وتخليط ، لأن استنباطات العلماء من فقهاء وأصوليين ومفسرين ومحدثين ومتكلمين ، هى « معارف بشرية » يؤخذ منها ويترك ، ولا يعنى هذا ـ فيما أبدى الدكتور الطيب ـ أن ندير ظهورنا لتراثنا الفقهى ، أو نقلل من أقدار علمائنا وفقهائنا ، وإنما معناه أننا لا نخلط بين الدين وبين ما هو بشرى يختلف باختلاف العقول والأفهام التى تصدت له ، فنقبل الصحيح الجدير بالقبول ، ونرفض أو نعرض عما أخطأه التوفيق والسداد ، وهذا الذى نُعْرض عنه من الفهم البشرى ، ليس إعراضًا عن الشريعة والدين الذى أنزله الله تعالى .
وجدير بالذكر ـ فيما أبدى فضيلة الدكتور الطيب ـ أن الخلط بين الفقه والشريعة ، قد أدى إلى الوقوع فى « التقليد » واتخاذه منهجًا ثابتًا فى البحث عن حلول لمشكلاتنا المعاصرة ، والتقليد آفة تصادر ـ إذا تجذَّرت ـ على العقل وعلى الفكر وعلى أجيال من العلماء والفقهاء ، ربما أتاح لهم الزمن ومعطيات الحضارة وتوافر المكتبات ، وتصنيف وفَهْرَسة الكتب ، ما كان متعذرًا ليس فى متناول السابقين من العلماء فى الزمن الغابر أو الماضى .
ولا يعنى هذا هجر ما اجتهد فيه السابقون ، فالإطلال عليه والتعرف على عناصره وأدلته واجب ، ولكن وجوبه هو لتوسيع الرؤية . وتعدد منابع الفهم ، لا للمصادرة على عقول العلماء وعلى التجديد فى الفكر والفهم وفى الدين إلى آخر الزمان .
كثيرًا ما يؤدى التعمق وإعمال الفكر ، إلى تجليات للنصوص لم تظهر للسابقين ، أو إلى استيلاد معانٍ أو أحكام تلبى الحاجات المستجدة ، وقد لا تكون هذه الحاجات هى هى الحاجات التى عرضت بذاتها فيما مضى ، بل قد يطرأ عليها من تغيرات الظروف والأحوال والزمان والمكان ، ما يجعل لذات الحاجة بعدًا أو أبعادًا أخرى زيادة عما كانت عليه ، وقد تتغير معالمها تغيرًا جوهريًّا فى عنصر من عناصرها أو جانب من جوانبها ، الأمر الذى يستوجب تجديد النظر والفكر ، ويؤدى القعود عنهما إلى محاصرة العقل ومحاصرة الفكر ومحاصرة التجديد الواجب مواكبته لمستجدات الحياة .
ومن المستغرب أن تركن الأمة إلى التقليد فى عصرنا الذى امتلأ بملايين المتغيرات ، وبالعديد من الكشوف العلمية ، وما ساق إليه ذلك من رؤًى فقهية بصيرة متجددة ، لذلك كان الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى على صواب ـ فيما أبدى الدكتور الطيب ـ حين أبدى أن الاعتزاز بتراث الماضين طبيعى وغريزى ، ومن الحمق التنكر له ، بيد أنه من الحق أيضًا ، بل فى الأساس ، أن الجمود من سمات الموت ، وأن الحركة هى أهم خصائص بل علامات الحياة ، وليس ببعيد عن العارفين أن كثيرًا من آيات القرآن الحكيم قد عابت على التقليد والمقلدين ، ولعله لا يفوت أن كل ما احتج به المعاندون فى قبـول دعوة الإسـلام وهداية الله ، أنهم كانـوا لا يحتجون إلاَّ بما وجدوا عليه آباءهم ، فاحتج قوم إبراهيم إليه بقولهم : « بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ » ( الشعراء 74 ) ، وقال قوم شعيب له: «… أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ….. » ( هود 87 ) ، وقيل لموسى عليه السلام : « أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا » (يونس 78) ، وقالت ثمود لنبيها صالح : « أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا » ( هود 62 ) ، وبمثل ذلك قالت مدين لشعيب ، وعاد لهود ، وجاء مثل ذلك عمن تصدوا بالنكير للدعوة المحمدية ، فجاء بالقرآن الحكيم : « وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » ( الأعراف 28 ) ، « بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ » (الزخرف 22 ، 23) . وقد قص الذكر الحكيم ما كان من ضيق وجمود منطق هؤلاء الأقوام مع نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى وعيسى ، وقد حاجاهم القرآن المجيد فى سورة البقرة بقوله عنهم : « وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ » ؟! (البقرة 170) ، وجاء فى سورة المائدة : « وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ » ؟! (المائدة 104) .
بداهةً فإننى لا أعنى بهذا الاستطراد أن أشبه الجامدين بما تجمد عليه الكفار والمشركون ، وإنما أردت فقط أن أبين « علة الجمود » وأثره فى حرمان العقل من التفكير ، وهو فى الإسلام فريضة جعلها الأستاذ العقاد عنوانًا لأحد كتبه الضافية .
وقد استشهد الدكتور الطيب فى بيان آفة الجمود وشل حركة التجديد والإبداع ، بأحاديث من السنة ، وبمرويات عن الصحابة والتابعين ، تتفق فى غايتها مع مطالب التجديد الذى يصادره الجمود والتقليد والانغلاق .