آفة العناد، وطريق الحق (1)
من تراب الطريق (1024)
آفة العناد، وطريق الحق (1)
نشر بجريدة المال الخميس 21/1/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
اقترن العناد ولا يزال، بكل سلبية تبعد الآدمي عن حسن وصواب وموضوعية النظر، وتبلغ النفس ذروة انحصارها في الذات حينما تستسلم استسلاما كليا للعناد.. لأنه ليس إلا مواقف تنحاز فيها ميولنا بشدة إلى تمسك الذات وإصرارها على موقفها ووقف تفكيرها تماما في احتمالات العدول عن تمسكها بما تتمسك به وتتجمد عليه. وهذه المواقف كثيرة جدًا في حياة كل منا طوال عمره.. وهي تختلف من حيث الأهمية بين الخطير وبين التافه، ومن حيث الشدة بين الجسيم الشديد وبين الضعيف الضئيل. ذلك لأننا في أغلب مساعينا وخلال يقظتنا لا نكف عن محاباة ميولنا قليلا أو كثيرا برغم ملاحظتنا لمواقف غيرنا وردود أفعاله.. وقد نعدل أو نؤجل تنفيذ ما نميل إليه حسابا للحفاظ على علاقتنا بالغير، ولكننا في العناد نعلن موقفنا المتصلب في هذا الأمر أو ذاك.. لا نبالي بإعلانه لمن حولنا كما لا نبالي بأن يصل خبره إلى من قصدنا توجيهه إليه إعلانا منا أننا لا نهتم برضاه أو سخطه في لحظات العناد تلك، ثم تهدأ ثائرة العناد فينا فنحاول جبر ما اختل.. وهكذا يدور دولاب الحياة بين الأهل والجيران والزملاء والرؤساء والمرؤوسين، في كل مكان وزمان.
ولكنّ هناك عنادًا آخر أشد عنفا وخطرا وضررا من ذلك الذي ذكرناه، هو تعصب الجماعات والطوائف والفرق بعضها ضد بعض.. وثمرته الحتمية امتلاء أفراد كل منها بالكراهية والحقد والعداوة لغيرها من أفراد الجماعات والطوائف والفرق الأخرى، برغم ضآلة أو انعدام العلاقات الشخصية بين أولئك الأفراد جميعا.. وذلك نتيجة توالى وتواتر التلقين والتحريض للأجيال المتعاقبة في مختلف المستويات والأعمار.
ونحن حين نفكر ننسى أن عقلنا المفكر ـ أي وعينا وفهمنا ـ ليـس إلاّ جزءًا منا فقط.. يصحب في نفس الوقت تنفسنا ودورة دمائنا ويقظتنا ونومنا وجهازنا الهضمي والعصبي والزمان والمكان الذي نكون فيهما. وهذه كلها تستخدم وعينا بصورة أو بأخرى في أداء وظائف كل منها التي لا تتوقف توقفا نهائيا إلاّ بالموت.
فعقلنا مهما علا مجرد صوت من جوقة أصوات عديدة عالية مثله أو أعلى تتصايح داخلنا.. وإحساسنا بعقلنا إحساس جزئي دائما يشاركه الإحساس بهذا العنصر أو ذاك من عناصر وجودنا الأخرى التي لا حياة لكل منـا إلاّ بـها مجتمعة.
فمدى نطاق العقل البشرى في الفرد أو الجماعات محدود خلقه بملازمة تلك الصحبة الكثيفة من العناصر والوظائف اللازمة لحياتنا بالحالة التي عرفناها ونعرفها بمزيد من الدقة حاليا.. وهذه المحدودية الملازمة للحياة لا ولن تنتهي إلاّ بنهاية حياتنا في الدنيا.. وهي
لم تسمح ولن تسمح لأحد من البشر بتعقل ما قبلها أو ما بعدها تعقلا تامًا أو نهائيًا!
لكن هذه المحدودية تسمح فقط لوعينا بالتسليم والإيمان بوضع كان أو وضع سيكون لا دخل فيه للنشاط العقلي المعتاد.. إذ لا مدخل ولا عمل في ذلك الإيمان والإذعان إلاّ أقل القليل.. وهو إذعان يشبه إذعان كل منا بأنه حيّ أو بأنه هو هو ولم يكن له أي وجود قابل للمعرفة قبل الحمل فيه، ولن يعود له وجود بعد الموت إلاّ عند البعث.. كما يشبه إذعان كل منا بسابقة إيجاد هذه الأرض وما يبدو لنا فوقها من سماء وما عليها من أناسي وأحياء وجمادات وإيجاد ذلك الكون الهائل الذي جاء إليه كل منا فجأة ويفارقه فجأة، برغم إحساسنا طول الماضي وسعة الحاضر وامتداد المستقبل.
كل أولئك كان وما زال صعبًا على العقل أن يتعقله وأن يفهمه فهمًا كاملاً.. وسيبقى ذلك عسيرًا عليه ما دام البشر ذوي أجساد وأحجام وأعمار.
وهذا ساتر ضخم جدًا بين رؤية العقل التحليلية وإمكاناته المليئة بالفروض والاحتمالات والنظريات وبين الإيمان والتسليم بما خلف ذلك الستار الضخم.. وهو ما لا حيلة لعقل الآدمي في رؤيته رؤية تامة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق أداة أو آلة أو جهاز.