وثيقة القضاء من “الفاروق” لأبي موسى الأشعري
بقلم: محمد الوراقي
إن القوة والسلطة دائماً ما تُذم! إلا في موضع واحد وهو نزع الباطل من الجاني وإعطائه إلى المجني عليه، فإرجاع الحقوق إلى أصحابها فضيلة من أحسن الفضائل، فهنا يظهر استخدام القوة والسلطة في أفضل موضع لهما حين تعيد الحق إلى صاحبه وتنزعه من يد الظالم.
وللقضاء مكانة كبيرة في الإسلام فهو ملاذ المتخاصمين، وهو الآداة المهيمنة الفاعلة في حفظ الحقوق وصيانتها، والقوة التي يلجأ إليها الضعيف ليسترد حقه.
فعندما تقرأ رسالة الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لأبي موسى الأشعري تتوقف كثيرًا عند كل جملة بل كل كلمة قالها سيدنا عمر، فقد أرسى في هذه الرسالة قواعد وشروط قضائية تعتبر مرجعاً أصيلا للفقه، حتى إن هذه الوثيقة ترجمت إلى ثلاث لغات هي الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، لما لها من أهمية في ترسيخ أصول وقواعد التقاضي وحفظ حقوق الناس.
هذه رسالة عمر بن الخطاب الى أبي موسى الأشعري (رضى الله عنهما)
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله عمر بن الخطاب -أمير المؤمنين إلى عبد الله ابن قيس: سلام عليك، أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك ونفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً.
ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت فيه اليوم عقلك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم، لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك بنظائرها، واعمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، ولا استحللت عليه القضية فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعمى، وأبلغ في العذر. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد، أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله قد تولى منكم السرائر، ودرأ بالبينات والإيمان، وإياك والقلق، والضجر، والتأذي بالخصوم، والتنكر عند الخصومات فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته، وأقبل على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه، شانه الله، فما ظنك بثواب عند الله عز وجل في عاجل رزقه، وخزائن رحمته، والسلام.
رحم الله عمر الفاروق، ورضي عنه، فقد سطر في هذه الرسالة معان وثوابت وأصول تزيد من مدارك وفهم الذي يتولى أمر إعادة الحقوق إلى المتخاصمين.