هندسة الفكر الجنائي

بقلم الدكتور/ أشرف نجيب الدريني

هل الجريمة وليدة لحظة أم ثمرة بناء فكري منحرف؟ وهل المجرم نتاج بيئة اجتماعية مشوهة، أم أنه يصنع مساره وحده بمعزل عن المؤثرات؟ وهل القانون يطارد الجريمة فقط، أم يلاحق الفكرة التي تمهد لها؟ كيف نفكك البنية الذهنية للمجرم؟! وهل يمكن بالفعل “هندسة” فكر جنائي مضاد، يُبنى على قيم رادعة، لا على عقوبات لاحقة؟ أسئلة لا تقف عند حدود “النظرية”، بل تمتد إلى عمق الواقع، حيث تتشابك الفكرة مع الفعل، ويصبح ما يدور في ذهن الإنسان مادة أولية لقانون يتدخل بعد فوات الأوان.

عندما نغوص في أعماق الفكر الجنائي، لا نجد مجرد قواعد قانونية جامدة، بل نكتشف نسقًا دقيقًا من التفاعلات النفسية والاجتماعية والثقافية التي تسبق ارتكاب الجريمة، وكأن الجريمة لا تبدأ من سكين يُرفع أو يد تمتد، بل من فكرةٍ تشق طريقها في عقل مشوش، فتتسلل بهدوء إلى نواياه، وتنمو شيئًا فشيئًا، حتى تتجسد سلوكًا.

الفكر الجنائي ليس اختراعًا طارئًا، بل هو بنية عقلية تتشكل داخل الإنسان تحت تأثير محيطه، طفولته، صدماته، ثقافته، طموحاته المحبطة، واحتياجاته غير المُلباة. في تلك اللحظات الخفية، حيث يُظلم الوعي وتضطرب المعايير، يولد الميل إلى خرق القانون. وليس من المنصف اختزال المجرم في مجرد فاعلٍ عَمديّ، بل علينا أن نفكر فيه كمنتجٍ إنسانيّ هش، أو مريضٍ بأفكارٍ مضطربة، أو كائنٍ مرَّ بتجارب قاسية اختزلت لديه صورة المجتمع في عدائية تستوجب الانتقام.

هندسة الفكر الجنائي، إذن، لا تعني فقط” تفكيك” الفعل الإجرامي، بل تحليل المقدمات الذهنية والعاطفية التي قادت إليه. كيف يفكر الجاني؟ ماذا يبرر داخليًّا؟ ما نوع اللغة التي يستخدمها ليبيح لنفسه ما يرفضه المجتمع؟ وما موقع القانون داخل هذه المتاهة النفسية؟ هل كان حاضرًا كرادع، أم غائبًا كفكرة؟

إن فهم هذه الأسئلة يقودنا إلى ضرورة إعادة التفكير في أدوات المواجهة. ليست العقوبة وحدها كافية، فهي تأتي متأخرة، بعد أن يُسدل الستار على مسرح الجريمة. إن ما نحتاجه هو تدخل مبكر في بنية الوعي، في المدرسة، في الأسرة، في الإعلام، وفي الخطاب الديني والثقافي. نحتاج إلى بناء خطاب وقائي يزرع في الإنسان فكرة القانون كقيمة، لا كسوطٍ ينتظر الخطأ.

وفي المقابل، فإن الفكر الجنائي السوي لا يولد عشوائيًا، بل هو الآخر يحتاج إلى “هندسة تربوية”، إلى زرع مفاهيم مثل احترام الآخر، وحرمة الحياة، وقدسية الجسد، وحدود الملكية. هذه المبادئ ليست محفوظات نُلقّنها للأطفال، بل منظومة قيم تنمو مع الإنسان وتستقر في لاوعيه، بحيث تصبح جزءًا من تكوينه النفسي قبل أن تكون إلزامًا قانونيًا.

المفارقة الكبرى أننا كثيرًا ما نُعلّم القوانين ولا نُهندس الفكر الذي يستوعبها، فننشئ أجيالاً تحفظ النصوص، وتجهل الأسباب. ولا مراء أن القانون لا يحكم مجتمعًا فارغًا من الفهم، بل هو بحاجة إلى أرضٍ فكرية صلبة تُؤمن به، وتستوعب حكمته، وتردع نفسها ذاتيًّا قبل أن تتعرض للردع الخارجي.

لذلك، فإن التحدي الحقيقي أمام المجتمعات المعاصرة، ليس فقط سن القوانين الصارمة، بل القدرة على هندسة الفكر قبل أن يُولد الانحراف. تلك الهندسة التي تبدأ من فهم الإنسان لا كمجرم محتمل، بل ككائن هش يمكن أن ينكسر، فينحرف. ومن هنا، تأتي أهمية تبني خطاب قانوني إنساني، لا يكتفي بالتجريم، بل يطرح الأسئلة حول “لماذا حدث هذا؟”، “كيف تشكل هذا الميل؟”، و”ماذا يمكن أن نفعل كي لا يتكرر؟”.

بهذا الفهم الإنساني العميق، يصبح القانون أداة للوقاية، لا مجرد أداة للعقاب. وتصبح الجريمة حدثًا قابلًا للفهم، لا فقط للإدانة. وتتحول العدالة من ميزان أعمى إلى منظومة ذكية، تسبق الحدث وتفكك أسبابه، وتعيد للإنسان مكانته كمحور لا كخطر. لذا، هندسة الفكر الجنائي ليست ترفًا أكاديميًا، بل هي مشروع نجاة، لا للفرد وحده، بل للمجتمع كله. إنها الرهان على الإنسان، لا ضده. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى