هل من شاطئ لمسألة الجبر والاختيار

هل من شاطئ لمسألة الجبر والاختيار

نشر بجريدة الشروق الخميس 11/3/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

في البحث عن شاطئ أو مرسى لسفينة البحث في مسألة الجبر والاختيار، اهتم المعتزلة المتأخرون بالنظر في آراء فلاسفة اليونان، ويتحدث إلينا الأستاذ العقاد بأن المتأخرون من المعتزلة عرفوا فيما عرفوه عنهم ما قاله كل منهم في صفات الله سبحانه وتعالى، قرأوا أن المعلم الأول أرسطو قد تكلم في صفة المحرك الذي لا يتحرك، فلم يجدوا صعوبة في القول بحرية الإنسان وعمله بمعزله عن القضاء والقدر، وإن كان التكليف ينقض رأي أرسطو كما ينقضه القول بالثواب والعقاب.

والمعتدلون من أهل السنة، قالوا بإرادة الله، وباختيار الإنسان فيما يقع عليه الجزاء، ولكنهم فرقوا بين الإرادة على الحتم والقسر، والإرادة على الأمر والتكليف..

فالله تعالى يقول: « كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ » ( النساء 135 )

وهو سبحانه أمره أن يقول للشىء: « كُنْ فَيَكُونُ » ( يس 82 )

وكلا القولين إرادة من الله، ولكن إرادة الأمر قد تُجاب بالطاعة وقد تُجاب بالعصيان.. أما إرادة الحتم والقسر فإنها تنفذ بالأمر « كُنْ فَيَكُونُ » حسبما قضى سبحانه..

ومن الآيات التي يستشهدون بها: « إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » ( الأعراف 28 )… « وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ » ( الزمر 7 ).

ويقولون إن آيات القرآن الكريم أنكرت حجة الجبريين إذ حكت عنهم أنهم « سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ » (الأنعام 148)…

« إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ » (النجم 23)

أما استشهاد الجبريين بأن الله يقول: « وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ » (الصافات 96 ) فالكلام فيه موجه إلى قوم إبراهيم إذ قال لهم: « قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ » ( الصافات 95، 96 ) أي خلقكم وخلق هذه الأصنام التي تنحتونها، وليس المقصود به نسبة معاصى العباد إلى الله.

يتفق أهل السنة والمعتزلة ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ على التفرقة بين حركات الجبر وحركات الاختيار في الإنسان فيقولون إن الإنسان ليس بأقل عقلاً، ولا أقل اختيارًا من الدابة التي يركبها.

ويعقب الأستاذ العقاد بعد هذه الخلاصة في مسألة القضاء والقدر بين الفرق الإسلامية، بأنه يبين أن القول الفصل في المسألة لا يحسب لمذهب واحد من هذه المذاهب، لأن المرجع في سر القضاء والقدر إلى حكمة الله. وحكمة الله تتعلق بالأبد الذي لا ابتداء له ولا انتهاء، ولا تتعلق بهذه الحقيقة أو بتلك الحقيقة في الزمن الذي يحيط به المخلوقات.

ويضيف الأستاذ العقاد أنه ليس في دعواه أو غرضه أن يأتى بالقول الفصل في هذه المسألة التي تتسع لاختلاف الآراء ولا تنتهي إلى قرار.. لأن الغرض الأول من هذا الكتاب هو تقرير مكان الفلسفة القرآنية من الدعوات الدينية التي تنتظم عليها حياة الجماعات البشرية.

ومكان الفلسفة الإسلامية بين تلك الدعوات واضح.

فليس في الإسلام ما في اليهودية من صورة الإله الذي ينافس البشر وينافسونه، أو يقدر لهم حسابهم فيخطئ في الحساب أو يعدل بعد ذلك عنه. فقدر الله سبحانه وتعالى محيط بكل شىء: « قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا » (الطلاق 3)… « وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ » (الرعد 8)… « وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا » (الفرقان 2).

وليس في الإسلام كفارة أحد عن أحد، ولا في القول بالخطيئة موروثة للمولود بغير جريرة له فيها.. « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ » ( الإسراء 13)… « وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى » ( الأنعام 164 )..

أما مسألة التكليف، فإن القرآن يجمع فيها بين استطاعة الإنسان أن يتلقى الأمر والنهي وبتقدير كل شىء، ولا تناقض بين القولين في حكم العقل وحكم الدين.

فوجود الله لم يحرم الناس حرية كانت تكون لهم في غير وجوده..

وقد أعطاهم الله حظوظًا من الحرية هي هذه الحظوظ التي يملكونها في هذه الحياة..

ولا محل والأمر كذلك لإنكار المنكرين أو لجاجة الساخرين، ذلك أنه إذا كان الله تعالى قد اضطر الناس أن يكونوا أحرارًا، فقد أصبحوا أحرارًا كما أراد، وهذا هو المَحَز في الحرية أيًّا كانت سُبُلها..

وأخيرًا يختم الأستاذ العقاد، بأن هنا محل الإيمان بما يرجع إلى الغيب ولا تحصره الشهادة..

ولكن الإيمان بالغيب إيمانان:

إيمان بما لا يُعقل، وهو تسليم مزعزع الأساس..

وإيمان بما ينتهي إليه العقل حين يبلغ مداه..

وهكذا يكون الإيمان إنْ كان لا بد من إيمان.

ولا بد من إيمان..

الحياة الأخرى

تتفق الأديان الكتابية على الإيمان بحياة أخرى بعد الموت، على بعض الاختلاف في تمثيل تلك الحياة، وقد اعتقد بذلك الفلاسفة من قبل الأديان وبعدها.

ومن أشهر المؤمنين بذلك من الفلاسفة الأقدمين أفلاطون، ومن أشهرهم في العصر الحديث عمانويل كانت.

وفي مذهب أفلاطون أن النفس جوهر مجرد بسيط لا يقبل التجزئة ولا الانحلال وهي قوام الحياة، وما هو حياة محال أن يعود « لا حياة ».. والعكس، ولكن النفس تتلبس بالمادة في معارج الترقى والتطهير، وتخْلُص من المادة ـ طورًا بعد طور ـ لتعود إلى عنصرها الأول من الحرية والصفاء.

وبقاء النفس في مذهب « كانت » مرتبط برأيه في « القانون الأخلاقى » الذي تدين به فطرة الإنسان، ويدل على إرادة إلهية فوق إرادة الآحاد والجماعات، وأنه من غير المعقول أن يُغرس في النفس قانون كهذا، ثم يَشْقَى من يدين به ويَسْعَد من ينبذه. والحكمة التي غرست هذا القانون في الطباع ـ خليقةٌ أن ترد الأمر إلى نصابه في حياة بعد هذه الحياة، بتحقيق العدل الذي قد لا يتم في حظوظ الحياة.

وفي القرآن أوصاف محسوسة للجنة، مثل ما جاء بسورة الواقعة: « فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا َيَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا * إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا » ( الواقعة 12 ـ 26 ).

وفي القرآن أوصاف محسوسة للنار، مثل ما وصفت به في سورة الفرقان: « بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا » ( الفرقان 11 ـ 13 ).

على أنه من المتفق عليه بنص القرآن والحديث النبوى الشريف، أن هذه الموصوفات غير ما يُرى ويُعهد في الحياة الدنيا..

وفي الحديث الشريف عن الجنة: « فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ».

والواقع أن المسلمين يفهمون من هذه الصفات معنى النعيم ومعنى العذاب، دون أن يخل فهمهم لأي منهما بالغرض المقصود من وعد الله ووعيده سبحانه.

* * *

ووصف الحقائق بالمحسوسات، تعبير يفهمه الخواص الذين يرتفعون بالفهم وبمطالب النفس الباقية عن الجهلاء..

ولكن هل هذا التعبير مفهوم عند هؤلاء الجهلاء ؟

وأهمية هذا التساؤل ـ ما هو معروف من أن هؤلاء هم أحوج إلى الوازع، بينما تستغرقهم المحسوسات ولا يخلصون منها إلى تجريد المعانى والشعور بحب الحقيقة وتقديس الكمال..

ومقتضى هذا الاختلاف في الطبيعة والقدرة والفهم، انه لا بد للعقيدة أن تخاطب كل العقول.. بل والجهّال قبل العارفين والعلماء..

ومجمل القول أن وصف الحياة الأخرى بالمحسوسات، يعم المعتقدين عمومًا ولا يتأتى إغفاله في خطاب يتجه إلى جميع المعتقدين، ولا يبلغ في نفوسهم مبلغ اليقين ما لم يتخلل هذا الشعور ويتغلغل في الضمير..

وقد نحا هذا النحو ـ الفلاسفة الذين قالوا ببقاء النفس بعد الموت، باعتباره ضرورة اعتقادية، يستلزمها اختلاف النفوس وحاجة كل منها إلى التطهر والتكمل في حياة بعد هذه الحياة.

وهذا المعنى ملحوظ ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ في تقدير العذاب الذي يُبتلى به المذنبون بعد الموت كما قضت به شريعة القرآن الكريم، وقد كاد المفسرون المسلمون أن يجمعوا على انتهاء عذاب الآخرة إلى الغفران، وأن الخلود والأبد ( في وصف العذاب ) يفيدان أن الزمان طويل ولا يفيدان البقاء بغير انتهاء، ويستشهد الأستاذ العقاد بحديث شريف طويل ورد بهذا المعنى في صحيح البخارى، ثم يقفي بأن للنبى عليه الصلاة والسلام أحاديث أخرى في هذا المعنى، فحواها جميعًا أن العذاب تطهير وتكفير، وأن الأنفس جميعًا تتلاقى ـ بعد ذلك ـ في حظيرة الرضوان.

 

زر الذهاب إلى الأعلى