من تراب الطريق ( 956 ) هل أنصفنا الأحياء ؟!
من تراب الطريق ( 956 )
هل أنصفنا الأحياء ؟!
نشر بجريدة المال الخميس 15/10/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يتكرر أحيانًا ، إن لم يكن كثيرًا ، أن لا نستيقظ على قيمة أعلامنا وأحقيتهم في التكريم إلاَّ بعد أن يفارقوا الحياة . يفارقانها وهم محرومون من كلمة إطراء أو تقدير ، هذا إن لم تلاحقهم تطاولات الصغار !
اللافت ، أنه فور الوفاة ، ننتبه لمحاسن الراحل ، وتنهمر الكتابات في كل موضع ، تشيد بالراحل العظيم ، وتضفى عليه من الأوصاف والصفات ما لو سمع معشاره في حياته لمات هانئاً سعيداً قرير العين !!
ظني أن معظم هذه الكتابات إقرارٌ بالذنب والتقصير في حق الراحل الذي لا يختلف أحد حول تميزه وموهبته وقدراته ، لم يكن الراحل مجهولاً حتى لا تتذكره الأقلام إلاّ فجأة بعد رحيله عـن الدنيا ، فذات هذه الأقلام ، ومنها أصحاب مواقع مؤثرة ، تعرف له قدره الذي ظل مطويًّا لا يظهر ولا يُبْدى ولا يُنصف إلى أن مات! فلماذا لا ننصف الناس أحياءً ، ولماذا دائمًا لا يأتي إنصاف الناس إلاّ بعد موتهم ؟!
ترى كم شخص يحس الآن بجحود أو نسيان الناس له ؟! ما هو إحساس الوالدين حينما لا يتلقيان من الأبناء إلا الجحود أو إلقاء الفتات المادي أو المعنوي لهما من وقت لآخر أو في المناسبات ؟! ما هي مشاعرهما وقدر ما يعانيانه من التعاسة حين يهملهما أولادهما ولا يعطونهما إلاّ ظهورهما ؟! ما هي مشاعر المعلم الذي ينكره تلاميذه ؟! ما هو إحساس الطبيب الذي بذل وداوى حين يجحده مريضه ؟! أو المحامي الذي أعطى من فكره وعلمه ما أقال به مظلومًا من ظالميه أو جبر عثرته ، فلا يلاقى إلاّ الجحود والإنكار؟! لازلت أذكر أسى أستاذي الجليل محمد عبد الله محمد ، من مسلك طبيب كاتب ترافع عنه سبعة أيام كاملة ، شهدت فيها محكمة جنوب القاهرة مرافعة رائعة أقالت المتهم الكاتب الطبيب من تهمة الكفر والإلحاد ، فلما صادف محاميه هذا الرائع ، على متن رحلة إحدى الطائرات ، تجاهله كأنه لا يعرفه ! ذكر لىّ الأستاذ محمد عبد الله محمد هذه الواقعة بعد حصولها بسنوات لم تنجح في إزالة ما يشعر به من مرارة ، يومها واسيته بأن حال الطبيب الكاتب المذكور شبيهة بالمريض النفسي الذى ينكر ـ باللاوعي ـ طبيبه الذى عالجه لأنه يذكره بحالته المرضية التي كانت ويريد أن يهرب من ذكراها .. من العجيب اللافت أن الطبيب الكاتب عاد بعد سنوات طويلة ، في برنامج تليفزيوني بُث بعد رحيل الأستاذ محمد عبد الله محمد ، ليذكر للمتلقين عبقريته واقتداره ومآثره عليه حين أنقذه دفاعه المتميز الرائع من تهمة الإلحاد على هامش كتابه الذى كان قد أصدره وهو فى أول الطريق ! كـان محمـد عبد الله محمد قد مات وفارق الدنيا حين تذكره الكاتب الطبيب وأثنى عليه ، بعد أن كان قد أنكره في حياته !
الغريب اللافت ، أن المعطائين هم أكثر الناس معاناة من جحود وإنكار وقلة إخلاص وربما خيانات الناس ! هل ذلك لأن حجم وتواصل عطائهم يزيد ـ بالمقابلة ! ـ إحساسهم بهذا الجحود ؟! لا مراء في أن المقابلة تزيد الإحساس بالمرارة ! ولكن المؤكد بغض النظر عن قدر هذا الإحساس المر ، أننا نحجب الوفاء عن مستحقيه إن لم نقابله بالإنكار والجحود ، وأن أفضل الفروض أمام شرنقة الاعتياد ، أننا اعتدنا أن نحجب العرفان ولا نتذكر الجديرين به إلاّ بعد أن يطويهم الموت !!
هل هي عقدة الذنب التي تدفع إلى هذا التدارك وانهمار الثناء وإبراز المزايا والمآثر بعد الرحيل ؟!
هل هو الخوف من المنافسة التي تدفع أبناء الكار إلى تجاهل كفاءات الغير ؟! ولكن بعض من تجاهلوا الرجل في حياته لم يكونوا في موقع منافسة معه لفارق الكفاءة أو السن أو الظروف.
هل هي آفة النسيان التي تأخذ الأحياء إلى مراكز وبؤر الاهتمام فتنطمر غيرها في زوايا النسيان ويتراكم عليها التجاهل حتى ينساها الناس فعلاً ؟! ولكن كيف يُنسى صاحب قلم لم تفارقه كفاءته وقدراته لحظة ؟!
لا يعرف وحشة ومرارة النكران أو الصدود ، إلا من تميزوا وناضلوا وجاهدوا وأوفوا وأعطوا ، فلم يلاقوا إلاّ صدودًا أو إنكارًا أو ألاعيب صغار أو خيانة نفوس طويت على الغدر وانعدم لديها الوفاء .
من آفاتنا الكبرى أننا لا ننتبه إلى قيمة من بيننا إلاّ بعد فوات الأوان !!!