نحو تشريع لتنظيم سلطة رئيس الجمهورية في العفو عن العقوبة
بقلم الأستاذ: محمد شعبان
العفو عن العقوبة هو سلطة من بين السلطات الهامة التي كفلها الدستور والقانون لرئيس الدولة، في إطار التوازن الدستوري بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية. فالأصل أن توقيع العقاب الجنائي وتقديره هو من إطلاقات سلطةالتفريد الجزائي للقاضي المختص بنظر الدعوى الجنائية والمنوط به -وحده دون غيره – تطبيق القانون على الواقعة المعروضة عليه، بما يحقق الأهداف التي تغياها المشرع الجنائي من وراء تقرير الجزاء الجنائي على النحو الذي يحقق الردع العام والردع الخاص ويضمن إصلاح الجاني وإعادة دمجه مرة أخرى في المجتمع بما يهيئه لاستعادة تكيفه الإجتماعي مع أفراده.
وتبدوا أهمية سلطة العفو عن العقوبة– على الأخص- في الحالات التي قد يتلاحظ فيها الشطط في الأحكام الصادرة بتوقيع العقوبة على المجرمينبما لا يتلائم مع حجم وطبيعة الدور الذي ساهم به في الجريمة،وحالة الخطورة التي ينبغي أن يُقاس على ضوئها العقاب المناسب لكل منهم،وذلك انطلاقاً من مقتضيات السياسة العقابية الحديثة التي تجعل من إصلاح المجرم -لا مجرد إيلامه- هدفاً لها بالأساس.
لذا أقرت غالبية الدساتير والتشريعات– ومنها الدستور المصري في المادة 155 منه – لرئيس الدولة – بوصفه حكماً بين السلطات – بصلاحيات للعفو عن العقوبة كلها أو بعضها أو إبدالها بعقوبة أخف منها مقررة قانوناً، إذا ما كان من شأن هذا العفو أن يحقق أهداف السياسة الجنائية في تحقيق الردع عن الجريمة وإعادة إصلاح المجرم، وهو ما يدخل ضمن مقتضيات ما اصطلح على تسميته “التفريد التنفيذي للعقاب”.
وبالنظر إلى أهمية العفو عن العقوبة – والذييُخول رئيس الجمهورية سلطة تقريره- في تحقيق أهداف السياسة الجنائية على ضوء ماسبق، فإنه – مع ذلك – يتعين التأكيد على أن هذه السلطة في العفو ليست مطلقة من كل قيد، حتى وإن كان الدستور والقانون قد جعلاها من إطلاقات السلطة التقديرية لرئيس الجمهورية. فلا ينبغي أن تكون سلطة العفو عن العقوبة وسيلة للتغول على صلاحيات السلطة القضائية والحد منها، كما لا ينبغي أن يُتخذ منه وسيلة لتفريغ سياسة الإصلاح العقابي من مضمونها، لأنه في كلا الأمرينما يجافي المصلحة العامة.
وهذه السلطة تشكل تغولاً على صلاحيات السلطة القضائية في الأحوال التي يصدر فيها العفو قبل استنفاد الدعوى الجنائية لمراحلها بصدور حكم بات فيها، وتفرغ سياسة الإصلاح العقابي من مضمونها في الأحوال التي يتقرر فيها العفو قبل بحث حالة الخاضع للعفو – سيما إذا كان شخصاً معيناً بالذات أو مجموعة أشخاص محكوم عليهم في جريمة معينة -والتأكد من الجهات المختصة بالإشراف على التنفيذ العقابي من أن العقوبة المحكوم بهاقد حققت الغاية منها في تحقيق الردع والإصلاح المطلوبين واللذين يدخلان ضمن أهداف الجزاء الجنائي.
ولعل ذلك ما يوجب على المشرع ممثلاً في مجلس النواب، الإسراع نحو سن تشريع ينظم سلطة رئيس الجمهورية في العفو عن العقوبة المحكوم بها، تنظيماً من شأنه أن يضع الأطر والقواعد العامة التي تضمن عدم الإنحراف في استعمال هذه السلطة، أو الخروج على مقتضيات الصالح العام للمجتمع الذي صدر الحكم بتوقيع العقوبة باسمه، وذلك عن طريق إنشاء لجان يدخل فيها عناصر قضائية وإجتماعية ونفسية وأمنية، للبت في مدى أحقية المشمولين بقرار العفو في استحقاقه، والتدابير الواجب إخضاعهم لها بعد خروجهم من المؤسسات العقابية، للتأكد من نجاح الوسائل العقابية التي خضعوا لها في إخماد الخطورة الإجرامية الكامنة بداخلهم.
وفي الحقيقة لا يمكن أن ننكر اتجاه الدولة إلى تبني فكرة سن مثل هذا التشريع؛ فبالبحث تبين أن الرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور سبق وأن شرعفي سن هذا التشريع وتم إعداد مسودة للقانون بالفعل، كما تداولت بعض الجرائد القومية ( جريدة أخبار اليوم ) خبراً في غضون عام 2015 يفيد بأن المشروع معروض على الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع،لإبداء الرأي فيه تمهيداً لإصداره بقرار بقانون لعدم انتخاب مجلس النواب آنذاك، إلا أن هذا التشريع ما يزال حبيس الأدراج حتى تاريخ كتابة هذه السطور، وهو ما يدعونا إلى مناشدة الحكومة بالإسراع نحو عرض هذا المشروع على مجلس النواب لإقراره، ونناشد كذلك أعضاء مجلس النواب إلى المسارعة بتقديم مشروع قانون موازي في حال إخفاق الحكومة في التقدم بالمشروع، وذلك لأهمية مثل هذا التشريع، خصوصاً مع ذيوع انتشار حالات العفو عن بعض المحكوم عليهم في قضايا هزت الرأي العام، ودون معرفة بالأسباب التي اقتضت اتخاذ مثل هذا القرار، وهو ما انفتح معه الباب على مصراعية للريب والظن، في مرحلة ما أحوج الدولة فيها إلى اكتساب ثقة مواطنيها في مؤسساتها واحترامهالسيادة القانون.