موقف الإسلام من الرق

موقف الإسلام من الرق

نشر بجريدة الشروق الخميس 28/1/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

كثر الحديث من قديم عن موقف الإسلام من الرق، وهو حديث لا يزال يتجدد أو يصطنع اصطناعًا بين آونة وأخرى، ويتفلسف فيه المتفلسفون قبل الفلاسفة، والمتنطعون قبل العلماء، وهواة التقعر وأدعياء العلم.

لذلك لم يكن غريبًا أن يتطرق الأستاذ العقاد في كتابه الضافي «الفلسفة القرآنية» إلى هذه المسألة، ويستهل حديثه فيها ــ تقدمة لما يبغيه ــ بالإشارة إلى أنه قد مضى على انتهاء الحرب العالمية (الثانية) أكثر من سنتين، ومع ذلك لا تزال الدول الغالبة توالى البحث في مسألة الأسرى، وتحاول أن تشرع لهم نظامًا جديدًا يوافق العلاقات الإنسانية بين الغالبين والمغلوبين وبين الأمم أو الدول على التعميم.. ولا تزال أخبار الأسرى ومحاكماتهم ــ وأشهرها محاكمات نورمبرج ــ تتردد في الصحف، وتنقلها الأنباء البرقية..

ومن تلك الأخبار نقل أسرى الدول المغلوبة بالألوف وعشرات الألوف حيث يعيشون في المعتقلات عيشة الأرقاء السجناء، ويسامون سخرة في تعمير الخرائب وإصلاح الأرض الموات إلى آخر ما يُسَخّرون للعمل فيه بالكفاف.

ومن تلك الأخبار محاكمات لبعض الأسرى المسئولين عن سوء معاملة الشعوب التي كانوا يحكمونها أو القسوة على من كانوا في حراستهم من الأسرى التابعين للدول التي غلبت.. وقد حكم على بعضهم بالموت أو بالسجن آمادًا طويلة .

ويقع هذا في أعقاب حرب عالمية يراد على آثارها تصحيح الآداب الإنسانية.

* * *

يقفي الأستاذ العقاد بعد هذه المقدمة، إلى جولة حول نظام الاسترقاق، يبدأها بأفلاطون الذي اعتبر هذا النظام ملازمًا للجمهورية الفاضلة أو للحكومة الإنسانية في مثلها الأعلى، وقد حرم فيها على الرقيق حقوق «المواطنة والمساواة».

والفيلسوف «أرسطو» جعل الرق نظامًا من الأنظمة الملازمة لطبائع الخليقة البشرية، فلا يزال في العالم أناس مخلوقون للسيادة، وأناس مخلوقون للخضوع.. وحكمهم في ذلك حكم «الآلات الحية» التي تساق إلى العمل ولا تدري فيما تساق إليه.

وعندما ظهرت المسيحية في بلاد اليونان ــ كتب القديس بولس إلى أهل «أفسس» رسالةً يأمر فيها العبيد بالإخلاص في إطاعة السادة.. وكان الحوارى بطرس يأمر العبيد بمثل ذلك، وجرت الكنيسة على منهجه وقبلت نظام الرق الذي زكاه أيضًا الفيلسوف «توما الأكوينى» أكبر حكماء الكنيسة، وأخذ بمذهب أرسطو وزاد عليه أن الاقتناع بأبخس المنازل من المعيشة الدنيوية لا يناقض فضائل الإيمان.

* * *

ولا بد من المقابلة بين هذه التقديرات الفلسفية والنتائج العملية التي بدت في الحرب العالمية، وبين أحكام القرآن في مسألة الرق ومسألة الأسرى..

فنرى أن الإسلام وإن أباح استخدام الأسرى ما دام في الحياة حروب وغالـب ومغلوب، إلاَّ أن القرآن الكريم حث المسلمين على فك الأسرى كرمًا ومنًّا، أو قبول الفدية وتيسيرها ومعاونتهم على تدبيرها… «فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا» (محمد 4)، وألحق الأسرى في الإحسان إليهم بالوالدين وبذوي القربى واليتامى والمساكين والجار وابن السبيل.. ووصف المؤمنين بأنهم الذين يطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا… وتكررت الوصايا به في السنة النبوية.

* * *

وإذا كان الباحثون الاجتماعيون الأوروبيون قد عللوا تحرير الأرقاء بعلل كثيرة من ضرورات «الاقتصاد»، فإن الإسلام لم يأخذ بذلك مجاراة لضرورات الاقتصاد، بل على الرغم من تلك الضرورات.. وعلى الرغم من شح الأنفس بالأموال وبما تملك الأيمان.. وتلك هي مزية الإسلام الكبرى في السبق إلى كل أدب رفيع.. وواضح لي أن كلام الأستاذ العقاد هنا أميل إلى الإشارة والإيجاز الشديد، وأنه غلب عليه الحديث عن «الأسر» بالذات، ولم يوف مسألة الرق حقها، عكس ما اعتدناه منه، ربما لأن الكتاب مخصص «لعصارة» الفلسفة القرآنية.

مما قلته في كتاب «عالمية الإسلام» عن المساواة فيه، وهي الصك الكبير على عدم إقراره الرق وإنما التعامل معه بسياسة تنتهي إلى تجفيفه ثم إغلاقه احترامًا لمبدأ المساواة، وإن الإسلام وقد أقر بوجود التفاوت بين الناس في الخلقة والملكات والنشاط والمكلفات، فإنه طوى الناس جميعًا في أسرة إنسانية واحدة لا تفاضل بيــن أفرادهـا إلاّ «بالعمل»، لا بالحسب ولا بالنسب ولا بالأعراق ولا بالأموال.. الإسلام أقر بوجود التنوع والاختلاف والتفاوت، وأعطى في الوقت نفسه للمساواة حقها.. في القرآن الحكيم في خطـاب موجه إلى الناس جميع، لا إلى المسلمين خاصة، يقول الحق سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات 13).. هذه الآية الجامعة، تلفت الأنظار إلى أصل الإنسانية الواحد، والخطاب في هذا متكـرر في القرآن المجيد، وهو لفت الإنسان إلى حجر الزاوية الأول في مبدأ المساواة بيـن النـاس، وهو أن الناس جميعًا ينتمون إلى أصل واحد.. «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا» (النساء 1).. «وهـو الذي أنشأكـم مـن نفس واحدة» (الأنعام 89 ).. «هُوَ الذي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا»(الأعراف 189).. هذا التنبيه القرآني المتكرر إلى أصل الإنسانية الواحد، تنهدم به دعاوى العنصرية والعصبيات، وينفسح الطريق ممهدًا واسعًا على مصراعيه للأخوّة التي لفت القرآن الأنظار إليها بين الناس جميعًا.. هذه الأخوّة، عماد المساواة، تسلس إلى الركاز الثاني في مبدأ المساواة.. هذا الركاز ينصب في مناط المفاضلة التي لا تكون إلاّ «بالعمل» لا بالأعراق والأحساب والأنساب (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ــ حين ترتد المفاضلة إلى هذا الميزان فإنها تجمع بين العدل وبين الحكمة جميعًا، فلا تخذل النشط العالم الساعي المجاهد التقىّ الورع، ولا تغلق في الوقت نفسه أبواب الرجاء أمام غيره وإنما تبقــى الباب مفتوحًا ــ وفي إطار الأخوّة التي تحدث عنها القرآن ــ لارتياد سبل التنافس والتباري على نول المكانة التي معيارها الوحيد «التقوى والعمــل الصالــح».. «وَفي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ» ( المطففين 26 ).. واستن الإسلام قرآنًا وسنّة، تضييق ثم غلق أبواب الاسترقاق، وفتح أبواب العتق على مصراعيها، وجعله أسبابًا للكفارة لكثير من المعاصي والمحظورات، وللحنث في اليمين، وتوسع فيها حتى قضى على الرق، فاختفي في الدول الإسلامية قبل زمن طويل من إلغائه في الولايات المتحدة الأمريكية التي ظلت حتى عهد قريب مشبعة بالتفرقة العنصرية.

ومن أبواب الاسترقاق التي أغلقها الإسلام، باب استرقاق الأسرى، وكان هذا الاستعباد عادة مرعية في الحروب والغزوات والإغارات، وكانت تقام لهذه النخاسة أسواق، فألغى الإسلام ذلك كله، ولم يبح استرقاق الأسير، بل وحض على حسن رعايته والإحسان إليه إلى أن يحين إطلاقه من الأسر، منًّا أو فداءً كما ورد في القرآن الكريم: «فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا» (محمد 4)، وجافي الإسلام أسواق العبيد، حتى كان أبوبكر الصديق يشترى العبيد المعذبين لإعتاقهم وتحريرهم من الرق والعبودية، وآخى الإسلام بين الجميع، فرأينا مما رأيناهم من كبار الصحابة أمثال بلال بن رباح، وسلمان الفارسي، وغيرهما، وكان عمر بن الخطاب يقول عن أبى بكر الصديق إنه سيدنا وأعتق سيدنا، قاصدًا بلال رضى الله عنه.

كان الرق حين بزغ الإسلام، نظامًا يحكم العالم كله، فداواه الإسلام بالحض على العتق والحث عليه، وزاد ففتح أبوابًا لإلغائه بفتح أبواب العتق للتكفير عن الذنوب والمعاصي في إطار فتحه أبوابًا للأمل والرجاء لكل من ارتكب خطيئة أو فرط منه ذنب أو معصية.

فإلى جوار التوبة والمغفرة، أدخل الإسلام العتق في أبواب الكفارات للتطهر من الذنوب والمعاصي، فاتخذ العتق وسيلة من وسائلها في القتل الخطأ، وفي الحنث باليمين والنذر، وفي الظهار الذي كان مقابلا للطلاق في الجاهلية.

ففي القتل الخطأ: «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ» (النساء 92)

وفي كفارة الحنث في اليمين ــ أو النذر: «أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ» (المائدة 89)

وجاء في الحديث النبوي: «كفارة النذر كفارة يمين».

وفي كفارة الظهار: «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا» (المجادلة 3).

لم يكن الإسلام هو الذي قرر الرق، ولكنه فتح أبواب العتق على مصراعيها حتى اختفي الرق تمامًا ولم يعُد له وجود!

 

زر الذهاب إلى الأعلى