من مقدمة كتاب المحاماة وسلطتا التحقيق والاتهام

الكاتب: الأستاذ/ محمود سلامة

الحمد لله حمد المحسنين الشاكرين، حمدًا على نعمائِهِ التي أهدانا وعدله وحقه الذي أولانا، وهو الذي شرفنا برسالةِ المحاماةِ، ويسر لنا أن نكون ممن تعلموا من فنونها التي لا تنتهي، وميزنا بحمل هذه الأمانةَ، فهنيئًا لمن أخلص لله في حملها، وهدى الله من خرجَ عما أمر الله به من الحق والعدل.

 أما بعد…

فالمحاماة كما أنها مهنة، فهي رسالةٌ، وكما أنها رسالةٌ، فهي فنٌّ، والفنان إما هاوٍ -وهذا لا يليقُ بفنِ المحاماةِ كونها رسالةً-وإما محترفٌ –وهذا أليقُ بالمحاماةِ كونها مهنةً.

فالمحامي فنانٌ صاحبُ رسالةٍ وصاحبُ حرفةٍ. وهل هناكَ ما هو أسمى من رسالةِ إرساءِ العدل بضمانِ حقوق صاحب الحق أو صاحب المظلمةِ، أو حتى المتهم الذي ارتكبَ جريمةً ما. نعم فحتى المتهم المتلبس بالجرمِ المشهودِ له حقٌ يضمنُ ألا يظلمَ، فلا يكونُ الحكمُ أقسى من جريمتِهِ ولا يكونُ مبنيًّا على انحيازٍ أو فسادٍ في الاستدلالِ أو بناءً على شهادةٍ زور.

المحامي ليس مؤدٍ على خشبةِ مسرَحٍ يجهز النصَ ليقومَ بتمثيلِهِ، فيتلقى تقديره المادي بالمالِ والمعنوي بتصفيق الجمهور، وإنما المحامي هو المفندُ الباحثُ الساعي للوصول إلى جوهر المسألةِ وأثرها، وهو الذي يعرضُ الأمرَ على القانونِ عرضًا ليعرفَ منه ما يطابقه وما يخالفُه، مستخدمًا روح العدالةِ وفلسفةِ التشريعِ ومصادر القانونِ ليخرجَ بنتيجةٍ يعرضها على المحققِ أو القاضي، فتكونُ ثمرةُ بحثِهِ مشكاةً للأحكامِ تخرجُ منها، ودربًا معتدلًا تسيرُ عليه، وحدودًا لا تخرجُ عنها. 

فالمحامي هو صاحبُ الحجةِ، وفارسُ الكلمةِ، وحارسُ الدستورِ والقانونِ. فلا حجةَ بغيرٍ علمٍ، ولا كلمةَ بغير لغةٍ، ولا حراسةَ بغير فهم. 

ولعلَّ من أجمل الكلماتِ التي قرأتُ في تعريفِ المحاماةِ ما قرأتُهُ من قلمِ الأستاذ الجليل رجائي عطية المحامي بالنقضِ، حيث كتبَ في مقدمةِ كتابه (رسالة المحاماة) عن المحاماةِ “المحاماة صوتُ الحقِّ في هذه الأمةِ وكلِّ أمةٍ. هي رسالةٌ ينهضُ بها المحامونَ فرسانَ الحقِّ والكلمةِ، يخوضونَ فيها الغمارَ، ويسبحونَ ضدَ التيارِ، يحملونَ رايةَ العدلِ في صدقٍ وأمانةٍ ووقارٍ، يناصرونَ الحقَّ، ويدرأون الظلمَ، يناضلُ المحامي في القيامِ بأمانتِهِ نضالًا قد تتعرضُ فيهِ مصالِحُهُ وحريَّتُهُ للخطرِ، وربما حياتُهُ نفسَهُ  فليست المحاماةُ بالمهنةِ الهيِّنةِ قيمةً، أو القليلةِ قدرًا، ولكنها المهوِّنَةُ والجليلةُ، تهوِّنُ على صاحب الحق والمظلمةِ، وجليلةٌ لا تُحمَلُ إلا بحقِّها، وبأسفٍ شديدٍ أقولُ –ولستُ وقتَ كتابةِ هذه الكلماتِ من شيوخها- أنها هانتْ على بنيها، فكانوا هم أكثرُ الناسِ إيذاءً لها وحطًا من قدرها في أعينِ الخاصةِ والعامةِ، فما حملوها إلا وكان معظم من حملها كالإنسانِ عمومًا في حملِ الأمانةِ ظلومًا جهولًا. ولا أخجلُ وأنا أكاشفُ نفسي قبل قارئي، لأنَّ المكاشفةَ والشفافيةَ هما شطرا المسألةِ. 

فترى المحامونَ معظمَهم وقد تركوا الكتابَ واتجهوا للسؤالِ عن أرباعِ بل وأعشارِ المعلوماتِ، فتراهم يتخبطونَ في جهلٍ يتلبسُ عليهم بعلمٍ، فكثيرون يظنونَ في أنفسِهم العلمَ وهم عنه ببعيدٍ. والعلمُ هنا يعني العلمَ أولًا باللغةِ، ولا أقصدُ باللغةِ المعاني والمباني، بل لغة الأجسادِ والأفهامِ، فالمحامي إن لم يتميز بذكاءٍ لغويٍّ متحليًا بالمنطقِ فليس يحصلُ من العلومِ شيئًا، ولا أقصر الكلامَ هنا عن العلم باللغة فقط، بل العلمِ بكلِّ شيءٍ، كأن يكونَ عارفًا بالفلسفة والمنطقِ والاقتصادِ والعلوم الحيويةِ كالطب والصيدلةِ والكيمياءِ والفيزياء، والعلوم الهندسيةِ وسائر المعارفِ من العلومِ، ولا أعني بذلكَ العلمَ التامَّ بكلِّ فرعٍ من العلومِ على اختلافها، ولكن أن يعرف المحامي عن كلِّ شيءٍ شيئًا، ويوسع مداركه ومعارفَهُ مع استمرارهِ بالحياةِ، وهذا مما يتحصل بمرورِ الأيامِ، وبالرغبةِ في المعرفةِ. فإن المحامي يتعرضُ في قضاياه لكافة المجالات في الحياةِ، ذلك بأن كل المجالات ينشأ بها وبسببها وعنها النزاعاتِ، فهناك نزاعات لها جوانب هندسية كالنزاع بين المقاول والمهندس، أو طبية كدعاوى المسئولية الطبية وجرائم القتل التي تتطلب محاميًا على علم بالتشريح، أو كيميائيةِ وبالأخص في جرائم المخدرات والتي يناقشُ فيها تقارير المعمل الجنائي، وما إلى ذلكَ.

ولا يعني بطبيعة الحال أن تكون المحاماة مجرد مهنة ترزق وتكسب دون النظر إلى معناها وما يحمله من سمو، فرغم أن لكل متهم الحق في أن يكون له مدافعًا عنه، أن يكون المحامي متلاعبًا خبيثًا، يقلبُ الحق باطلاً والباطلَ حقًا ليبرئ موكله أو يحقق له رغباتَهُ الفاسدةِ بالحصولِ على ما ليس له به حقٌ، أو أن يكونَ أداةً لأذى البعضِ لحسابِ آخرينَ مقابلَ ما سيقضي عليه بإنفاقِهِ ثم يكون عليه حسرة، فلا يتبقى له غير غضبِ اللهِ عليه واحتقار المجتمع له، فمهما علا هذا الصنفُ من الناسِ فإنه إلى سقوط، ومهما ظنَّ العزةَ فهو إلى هوان.

فالله سبحانَهُ وتعالى يقولُ في كتابِهِ الحكيم (هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًأ”()

ولعل الكثيرون يتساءلونَ لما هانت المحاماةُ في أعينِ الناسِ؟ فأقولُ إن المحاماة لم تهن يومًا، ولكن هانَ من استبدَ بهم الجهلُ أو الظلمُ أو كلاهما معًا، فسقطوا في قاع السمعةِ وما أغنت عنهم أموالهم ولا أولادهم، فإن تبسمَ في وجههم العامةِ لشهرةٍ اكتسبوها، فهذا دأبُّ العامَّةِ. 

ورغم ما ألمَّ بها، فلم تعدم المحاماةُ يومًا أشرافها وفرسانها، فلا يعني دخول بعض السوقةِ حاملينَ في أيديهم شهادةَ الحقوقِ أنهم استحقوا صفةَ رجال الحق، فسبق أن قلتُ أن المحاماةَ مهنةٌ وفنٌّ ورسالةٌ، وهؤلاء لم يعرفوها سوى بابِ رزقٍ. ولكن ولا يزال هناك أهل رسالةٍ وفنٍ، ولن تخلو منهم المحاماة ما بقيت العدالةُ، ولعلهم ممن قيل فيهم مما رواه عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “إنَّ للهِ أقوامًا اختصَّهم بالنِّعمِ لمنافعِ العبادِ يُقرُّهم فيها ما بذلوها فإذا منعوها نزعها منهم فحوَّلها إلى غيرِهم” () نسألُ الله تعالى أن نكونَ منهم لا من الذين تسلبُ منهم النعم وتحوَّلُ لغيرِهم.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى