من مذكرات أول نقيب للمحامين
بقلم: وحيد الكيلاني
النقيب ابراهيم الهلباوي، هل ظلم أم سقط دون قصد في عداء مع الشعب المصري أجمع، وكان ذلك من ١١٤ سنه مضت، ورغم ذلك أنتخبه المحامون كأول نقيب محامين يعتلي تلك النقابه الوليده عام ١٩١٢ اي بعد حادثه دنشواي بسته سنوات فقط .
وعندما أردت تحقيق الواقعه لم أجد بد عن الرجوع الي أقوال صاحب الشأن وهو النقيب الهلباوي نفسه من واقع ذكرياته ومذكراته الشخصيه ، وسأترك الحكم للقارئ أو للمحامي ، فربما يكون من تلك القضيه دروس يستفيد منها الجميع ،
وإليكم التفاصيل .
حادثة دنشواي هو اسم لواقعةٍ جرت في الثالث عشر من يونيو عام 1906 في قرية دنشواي المصرية التابعة لمحافظة المنوفية غرب الدلتاحيث تطور الأمر بين خمسة ضباط إنجليز وفلاحين مصريين إلى مقتل عدد من المصريين بالنار بينهم امرأة، ووفاة ضابطٍ بضربة شمس. الأهم في القضية -وهو ما خلدها تاريخياً- رد الفعل الغاشم للسلطة الإنجليزية التي كان مضى ربع قرنٍ على احتلالها مصر وعلى رأسها اللورد كرومر والطريقة المتعجرفة الشنيعة في تنفيذ الأحكام.
وكان لتلك القضيه صدي كبير
وقد دفع الثمن فيها ابراهيم باشا الهلباوي اول نقيب المحامين المصريين ، رغم انتخابه بعد واقعة القضيه بست سنوات ، واليوم سنقرأ دفاع نقيب المحامين الهلباوي عن نفسة وهو يحكي لنا تفاصيل تلك القضيه من واقع مذكراته الشخصية .
والحديث لنقيب المحامين ابراهيم الهلباوي
القضيه _قضيه دنشواي _التي يعلم الله أنني ما كنت وحدي لاستحق هذه الشهره السيئه التي خلفتها علي هذه القضيه بل هناك كثيرون اول وأحق بهذا الصيت المشين .
وقعت هذه الحادثه بناحيه دنشواي في يوم الاربعاء ١٣ يونيه ١٩٠٦ وقد كنت في هذا اليوم مسافرا من مصر الي عزبتي بناحيه سيدي غازي (بمديريه البحيره) قبل أن تقع الحادثه بعده ساعات ، وبقيت هناك بقيه هذا اليوم ويومي الخميس والجمعه التالين . وكان السبب في هذا السفر نزاع قام بيني وبين احمد خيري باشا الذي كان مديرا لديوان الأوقاف العموميه يرجع سببه الي وجود تل قديم في وسط أرضه صرحت له مصلحه الأملاك بشرائه ليستعمله في تسبيخ أرضه. وقد نصحني اخي القائم بشئون اطياني _ بالمطالبة بذلك التل لنفسي _ لأنه من المنافع العامه التي لنا حق أخذ الاتربه منها فشكوت من الترخيص الذي أصدرته مصلحه الأملاك_ فرد خيري باشا علي ذلك بأن في ارضي تلالا اخري، وانني لست في حاجة إلى التل الموجود في وسط أرضه. وعلمت أن مندوب مصلحه الأملاك سيحضر يوم الخميس او الجمعه للنظر في هذا الموضوع.
وفي الساعه التاسعه من صباح يوم الجمعه ١٥يونيو حضر المستر انتوني مدير مصلحه الأملاك الاميريه ومعه المرحوم محمد بك اباظه المفتش بها اذ ذاك الي منزلي قبل معاينه التلول. وفي اثناء الحديث روي لي مستر انتوني حادثة دنشواي التي وقعت يوم الأربعاء ولم يكن وصلني نبأها لأنها نشرت يوم الخميس، وجرائد الخميس لا تصل الا الساعه العاشره من صباح اليوم التالي. فأسفت أشد الاسف ، ثم ذهبنا الي معاينه تلول الأتربه فأخبرني أنه لا محل لشكواي بشأن تل خيري باشا وابيح له شراؤه، وهذا يدل علي أن الحكومه لم يكن لديها فكره عن مجاملتي أو التودد الي.
وفي صباح السبت ركبت القطار الذاهب الي طنطا ، وقد عزمت علي أن أمر بدنشواي لاقدم نفسي متطوعا للدفاع عن المتهمين في الحادثه . ولما وصلت طنطا حوالي الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم المذكور وسألت المرحوم طلعت بك ناظر المحطه وقتئذ من الجهه الجاري بها التحقيق وعن اقرب محطه اليها. فعلمت أن المحطه هي بتانون ومنها يذهب الإنسان الي دنشواي،
وأنه غير مضمون وجود عربه للذهاب بها الي محل التحقيق. وقد اطلعني حضرته علي درجة حرارة الجو في ذلك اليوم، فإذا بها فوق درجه ٤١.
وقد نصحني بأن لا أتم السفر في ذلك الجو الشديد القيظ خصوصا وأن المسافه بين محطه البتانون ودنشواي نحو احد عشر كيلو متر. وأنه لربما لايكون هناك في ذلك اليوم تحقيق فأخذت بنصيحته وتابعت سفري الي القاهره.
وعند وصولي الي منزلي وجدت رسولا من قبل صاحب العطوفه مصطفي فهمي باشا ناظر النظار وقتئذ يدعوني الي الداخليه ترغب في إنتدابي لأن أكون قائما بوظيفه النائب العمومي في التهمه التي سترفع أمام المحكمه المخصوصه للمرافعه مع الحكومة ضد المتهمين من أهالي دنشواي
اختارتني لانني أكبر المحامين “الموجودين سنا واقدميه . وتذكرت في ذلك الوقت أن المحكمه المخصوصه التي قدم إليها المتهمون في هذه الحادثه كان قد جري علي أن يمثل اتهامها شيخ من شيوخ المحامين فعند اول تطبيق لقانون المحكمه المخصوصه في الحادثه قليوب اختير لتمثيل الاتهام فيها المرحوم احمد الحسيني بك . وكان ذاك أكبر المحامين الموجودين سنا ومقاما. لذلك لم اجد مسوغا يسمح لي برفض القيام بهذه المهمه. وقد طلبت تحديد اتعابي. فقدرت كما طلبت بثلاث مائة جنيه وقد اشترطت أن تكون مهمتي قاصره علي الدفاع امام المحكمه دون أن اشترك في أعمال التحقيق. وبعد حديث بين المستر متشل مستشار وزاره الداخليه وعطوفه وزير الداخلية ورئيس النظار قبل طلبي في أن لا أتدخل في التحقيق.
وقد كان التحقيق جاريا في المنوفيه بمعرفه حضره النائب العمومي محمد باشا ابراهيم وسعاده محمد باشا شكري مدير المنوفيه. بمقتضي قانون تشكيل هذه المحكمه وبيان يحرر تقريرا من واقع التحقيقات باحاله من يريد إحالته الي هذه المحكمه وبيان العقوبات التي يرغب توقيعها عليهم.
جاء ملف القضيه الي مانسفيلد باشا وراجع مع مستر موجرلي مفتش الداخليه اوراق التحقيق دون تدخل مني.
وكتب تقرير الاتهام باحاله واحد وخمسين متهما علي المحكمه المخصوصه طالبا معاقبتهم جميعا بالاعدام
جاءتني الاوراق بعد ذلك وهي محاله علي المحكمه بهذه الكيفية، والمعلوم والجاري عليه العمل في محاكم الجنايات العاديه أن النائب المترافع يكون اختصاص ممثل النيابه العموميه امام المحكمه المخصوصه التي تشبه محكمه عسكريه استئنافية أقل سعه من اختصاص النائب العمومي المترافع أمام محكمة الجنايات العاديه.
قانون المحكمه المخصوصه يجعل للقاضي الذي يحكم فيها السلطه بأن يحكم بأشد عقوبه علي اي فعل من الأفعال المسنده الي المتهمين ما دام قانون العقوبات يجعله من الأفعال المعاقب عليها، ولو كانت عقوبته اخف عقوبات الجنح والجنايات، فإذا كان اختصاص قضاه هذه المحكمه واسعا الي هذا، وإذا كان الممثل لقاضي الاحاله حكمدار بوليس القاهره طلب عقوبه الاعدام علي جميع المحالين الي المحكمه. وقد كانوا واحد وخمسين متهما فماذا يصنع القائم بوظيفه النائب العمومي وما هو الحول أو القوه التي تخوله الخروج من هذا الحد المرسوم له.
بالرغم من هذا، لما قرأت اوراق الدعوي تبينت أنه من الشطط الفاضح الا يميز بين المتهمين وبعضهم في المسؤليه. وطلبت من المتصلين بي من رجال الحكومه أن أخرج نحو الخمسه عشر متهما من طلب عقوبه الاعدام بطلب صريح في الجلسه ولا اوافق تقرير الاتهام بالنسبه لعشره منهم، وبعد أخذ ورد بيني وبينهم تمكنت من اقناعتهم فقبل طلبي.
عقدت الجلسه التي نظرت فيها هذه القضيه في صيوان كبير يسع نحو ثلاثه الاف شخص، ودعي الي شهود المحاكمه الأعيان والعميد من مديريه المنوفيه والمديريات التي حولها، وانتخب سكرتير الجلسه عثمان باشا مرتضي، ورئيسا للمحكمه المرحوم بطرس باشا غالي، وقاضيا اخر وطنيا خلاف الرئيس وهو المرحوم فتحي باشا زغلول وقاضيا انجليزيا وهو مستر بوند وكيل محكمه الاستئناف، ونائب المستشار القضائي بوزاره الحقانيه وضابط من الجيش الانجليزي حضر نيابه عن السلطه العسكريه، ونيابه عن الجيش.
وفي هذا المحكمه التي انعقدت وفي هذا الجمع ارتفعت بما املاه علي الواجب دون أن أتجاوز بكلمه واحدة بل ربما استطيع ان أعترف هنا بأن شعوري بوطنيتي وصل بي الي حد لا يتفق مع واجبي وذلك اني دعوته لغرفتي بشبين الكوم قبل يوم المرافعه حضرات الأساتذة المحامين عن المتهمين وهم الأساتذة
احمد بك لطفي السيد ،
ومحمد بك يوسف ، وإسماعيل بك عاصم ،
واطلعتهم علي كل النقط التي سأستند عليها في دفاعي ضد المتهمين لكي لا يفاجئوا في الجلسه ، ترافعت فوق الثلاث ساعات ولم أري من ذلك الجمع ، الغفير اي أشمئزاز بنقد ما قلته بل عندما أمرت المحكمة برفع الجلسة عقب مرافعتي للاستراحه ، قابلني تقريبا كل الحاضرين بالتحية والتهنئة علي ما ابديته من دفاع المتهمين في القضية المذكورة .
ترافعت ثلاث ساعات دون انقطاع ومن بين النقط التي اوضحتها في الجلسة الرد علي افكار قيلت لي أثناء دراسة القضيه من بعض الانجليز وهي ان تأخير ضابط نقطة الشهداء عن مقابلة الأورطة يوم وصولها إلي دنشواي كالعادة السنويه قد يدعوا الي الظن بأن هذا التغييب كان مقصودا
أما دفاع الأساتذة وكلاء المتهمين فلم يستغرق في مجموعه اكثر من ساعة وربع وبعد النطق بالحكم ، ذلك الحكم القاسي وهو أعدام أربعة شنقا وجلد ٦ أمام منازلهم ، علا الناس رهبه وفزعا وقد أكون أشد الناس تأثرا من هول تلك الساعه ،
وفي غرفة المداوله والثلاثة قضاة الانجليز موجودون كانت علي وجوهم جميعا التأثير ،
سألني رئيس المحكمة بطرس باشا غالي ماهو رأي في الحكم فقلت :
إن مثلي أمام هذا الحكم كمثل ام جاءها الأطباء ينظرون في أمر ولدها الوحيد لعلهم يجدون له دواء ، ولما قرروا أنه من الضروري لإنقاذ حياته بتر الفخد ،
خضعت الوالدة وسلمت أمرها لله فلما قاموا بإجراءها واتموها خرجوا قائلين لوالدته نجحت العمليه ببتر الفخد فلم يسع الام المسكينه أمام هذا الخبر إلا أن تولول حزينه علي ما أصاب ابنها ، فشأني أمام ذلك الحكم كشأن تلك الوالدة .
لقد جاءت قضية دنشواي والهلباوي يمثل المصلحة الانجليزيه ويطلب اعدام عشرة والمحكمة تحكم بإعدام أربعة إذن يكون باب القذف والطعن علي الهلباوي مفتوحا علي مصراعيه وهكذا فتحت هذة المعركه في الجرائد بالخيانه الكبري ،
امسي الهلباوي معروفا بعنوان لطيف وهبه له الشيخ جاويش
وهو
جلاد دنشواي
أما القضاة المصريين الذين حكموا بالأجماع بالاعدام شنقا والتعذيب بالسياط واولهم بطرس غالي وفتحي زغلول فلم ينعتوا بتلك النعوت التي تراكمت علي رأس الهلباوي حتي حينما أعلنت الحكومه أن الحكم صدر بإجماع الآراء أي أن كل قضاة المحكمة شركاء في الحكم ومنهم فتحي باشا زغلول .
وللحديث بقيه .
بقلم ✍️
وحيد الكيلاني
المحامي