من توابع الفوضى ! (1)

من توابع الفوضى ! (1)

نشر بجريدة الوطن الجمعة 5 / 3 / 2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

الفوضى التي أقصدها، هي ما عانت منه مصر منذ قفز الإخوان على حركة الشباب في يناير 2011، واستولوا على الحركة، وعلى مفاصل الدولة في ظل الفوضى العارمة التي عمت ولازمت الأحداث بفعل فعلة قصدوها واستغلوها !!

ففي التوقيت الذي بدا جليًّا أن شباب الانتفاضة قد أزيحوا خارج المشهد، واحتل الإخوان والسلفيون كامل المشهد رافعين شعار الثورة والشرعية الثورية، والهدف كان الاستقواء والاستحواذ على كل مراكز القوة، للاستيلاء على الحكم والقبوع على صدر مصر والمصريين، وشيئًا فشيئًا جعل الإخوان يسبقون السلفيين بخطوات كفلت لهم الاستئثار دونهم بالفعالية.

ومن توابع هذه الفوضى أنهم تمكنوا بالضغط والتهديد من فرض نظام الانتخاب بالقوائم الحزبية المغلقة، ولها النصف، والنصف الآخر للمقاعد الفردية، مع أن المستقلين أكثر من عشرة أضعاف الحزبيين ومن ثم كانت القسمة غير عادلة، ومن هذه الفوضى أو القسمة الضريرة على ما فيها من تمييز للحزبيين، أو إن شئت للإخوان والسلفيين، فإنه ما كاد يصدر المرسوم بقانون 108/2011 في 19/7/2011، ولا ينشر بالجريدة الرسمية إلاّ في 27/9/2011، وذلك لغز سينجلى حالًا، فما كاد يصدر المرسوم 108، إلاّ وصدر بهذه القسمة المنحازة لصالح الإخوان المرسوم بقانون 120/2011، والغريب اللاّفت أن يصدر وينشر في 26/9/2011، أي قبل يوم من تاريخ نشر المرسوم بقانون 108/2011 في 27/9/2011، مع أنه يعدله مما يستوجب أن يكون بعده لا قبله، أما التعديل فكان القضمة الثالثة للإخوان، بتعديل النسب بين القوائم الحزبية والمقاعد الفردية إلى الثلثين للقوائم الحزبية، والثلث للمقاعد الفردية، ليكون تمييز الأحزاب ـــ أو قل الإخوان والسلفيين ـــ تمييزًا مضاعفًا مركبًا يخل إخلالًا جسيمًا بمبدأ المساواة، ومع ذلك ظل الإخوان يتشكون ويملئون الدنيا صياحًا بأن المجلس العسكري يعاديهم ويظلمهم، وعلى إثر فوضى المليونيّات التي اختفت اختفاءً له دلالته، صدر المرسوم بقانون 123/2011 الذي صدر ونشر في 8/10/2011، مقدمًا القضمة الرابعة للإخوان، بإلغاء ما كانت قد قررته المادة الخامسة من هذه المراسيم عن قصر الترشح على المقاعد الفردية على المستقلين دون الحزبيين، وفرضت جزاءً لمخالفة ذلك، ومن ثم أطلق بإلغائها الحبل على الغارب لأعضاء الأحزاب، وفي مقدمتهم الإخوان والسلفيون للترشح على الثلثين المقررين للقواعد الحزبية المغلقة، وللترشح أيضًا على الثلث المهيض الباقي للمستقلين، في خروج صارخ على مبدأ المساواة الذي ضرب في عدة مقاتل دعت العارفين إلى القطع بعدم دستورية ما سوف تجرى عليه انتخابات الشعب والشورى مما يعرضهما للبطلان والحل، إلاَّ أن زهو النفوذ والغلبة كبير، وأثر الفوضى مغرٍ فضلًا عن أنه سقيم !!

وعلى أسنة الرماح، وتحت مظلة هذه الفوضى، تشكل مجلسا الشعب والشورى، تشكيلًا مشوبًا بالبطلان لعدم دستورية أساس البناء، وتحت مظلة هذه الفوضى المقرونة بزهو الغلبة ودوافع الاستقواء والاستحواذ، جرت في برلمان مصر العريق، مشاهد مؤسفة خرجت عن التقاليد وعن مبادئ التشريع على السواء. ودعنا من التقاليد، فالحديث عنها ترف إزاء ما نحن فيه، ولنراجع ما جرى ـ إجمالًا ـ في مسألة الرقابة البرلمانية ومسألة التشريع، لنرى خلطًا معيبًا فوضويًا في مباشرة الرقابة البرلمانية، بهجوم مُضَري على القضاء وعلى النائب العام ومطالبة بعزله ــ رغم حصانته، ومطالبات بتطهير القضاء، في خلط يسقط المبدأ الدستوري بالفصل بين السلطات، وعدم جواز تدخل إحداهما في شئون الأخرى، وتزامن مع ذلك هجوم مُضَرى آخر على الشرطة ــ سَكَتَ حين استولوا على الحكم !!! ــ في خلط وتخليط بين مباشرة الرقابة البرلمانية وهى مباحة بل ومطلوبة، وبين إحلال البرلمان نفسه محل السلطة التنفيذية ليدير ويتصرف في شئونها تحت دعاوى تطهير الشرطة وإعادة هيكلتها.

أما التشريع، فقد ضربته الفوضى في مقاتل، بسن ما سمى قانون العزل السياسي الذي طرز تطريزًا طوى على عدة مخالفات دستورية، بغرض الحيلولة دون ترشح أي ذي وزن بعد بدء سباق الانتخابات الرئاسية، وافتقد هذا التشريع مبدأ العمومية والتجريد، وهو مبدأ دستوري، لأنه استهدف أشخاصًا بذواتهم، وخالف مبدأ المساواة بتمييز بين هذا وذاك تبعًا للغرض المغرض من القانون، فعزل مناصب، وترك غيرها بغير علّة ظاهرة، ثم أوقع عقوبات فرضها بالقانون خلافًا للمبدأ الدستوري، أنه لا عقوبة إلاّ بحكم قضائي، أي في محاكمة يتاح فيها للمتهم ـــ كما يتاح للمدعى ـــ أن يبدى ويقدم دفاعه، وليصدر حكم قضائي لا بتحكم سلطة ـ بقبول الدعوى أو رفضها.

وكان من الفوضى الضاربة في كل شيء، أن استُهدفت المحكمة الدستورية العليا ذاتها ـــ وبقيت طول مدة حكمهم مستهدفة ـــ وفي توقيت كان معروضًا عليها فيه، عدم دستورية قانون انتخابات مجلسي الشعب والشورى, وعدم دستورية قانون العزل السياسي، وبدا داخل هذه الفوضى التي استهدفت الدستورية العليا بدعوى إعادة تشكيلها، مع أن قضاتها غير قابلين للعزل، وتغيير رئيسها الذي لم يكن باقيًا على خدمته سوى شهر يحال بعده إلى المعاش، يضاف إلى ذلك أن مجلس الشعب قد أعد آنذاك عدة مشروعات لقوانين أخرى قدر أنها سوف تعرض لزامًا ـــ لعيوبها الدستورية ـــ على المحكمة الدستورية العليا، منها إلغاء المرجعية الإسلامية الأولى للأزهر الشريف، ومنها تغيير نظام انتخاب فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر بجعله للقاعدة العريضة ليصير الاختيار لهذا الموقع الرفيع كانتخابات المجالس الشعبية المحلية، نهبًا للأهواء والتيارات والانحيازات والرجوات والإغراءات والوعود والجعول، ومن هذه المشروعات مشروع استهداف تحصين بعض القوانين من الرقابة الدستورية، خلافًا للمبدأ الدستوري أن المحكمة الدستورية هي التي تختص ـــ دون غيرها ـــ بالرقابة على دستورية القوانين.

ومن هذه الفوضى أن الإخوان شنوا آنذاك حملة ضارية على المجلس الأعلى للقوات المسلحة، للمصادرة على كل قوة يمكن أن تحمى مصر منهم.

ومن هذه الفوضى أن تُحَمَّل المحكمة الدستورية العليا بجرائر تشريعات خاطئة، الذنب في عدم دستوريتها ذنب واضعيها أو المحرضين على وضعها أو الضاغطين لفرضها، بعضها صنعته الأغلبية الإخوانية بمجلس الشعب ـ كقانون العزل السياسي، والبعض صدر تحت ضغوط الإخوان، كالمراسيم 108, 120, 123 لسنة 2011. والأغرب أن رئيس اللجنة التشريعية بمجلس الشعب ـــ وهو من الإخوان ـــ سلم وجاهر بأن قانون العزل السياسي غير دستوري، ومع ذلك لم يجد الإخوان بأسًا من شن حملة ضارية على المحكمة الدستورية العليا التي لا يطالبها عاقل بأن تقضى بدستورية ما لا دستورية له !!

ومن هذه الفوضى، الأسلوب الذي قوبل به قضاء المحكمة الدستورية العليا، وكان من هذا الأسلوب غير المشروع ـــ إصدار قرار جمهوري بدعوة لانعقاد مجلس الشعب الذي قضى في 14/6/2012 بأنه غير قائم منذ تشكيله، لبطلان وعدم دستورية القانون الذي جرت انتخاباته ـــ هو ومجلس الشورى ! ـــ على أساسه، فبدا في هذه الفوضى أن القرار يسعى لإيجاد ما لا وجود له، ثم كان من الإمعان في هذه الفوضى التي أعطت ظهرها تمامًا للقانون وللمبادئ الدستورية، أن يُحال حكم المحكمة الدستورية العليا إلى محكمة النقض بدعوى أن المسألة مسألة صحة عضوية، ولم تكن كذلك، وإنما هي بطلان تشكيل المجلس برمته بصرف النظر عن أعضائه، لما شاب تشكيله من بطلان وعدم دستورية القانون الذي شكل ـ وكذا مجلس الشورى ـ على أساسه.

ولأن الفوضى لم تصل، بمشيئة الله، إلى محكمة النقض، فإن رئيسها قد جمع الهيئة العامة للدوائر مجتمعة، وهى تشكل من رؤساء الدوائر المدنية والجنائية بالمحكمة، لتنظر فيما أحاله مجلس الشعب إليها، فقضت قضاءها المتوقع بالرفض وبأنه لا اختصاص لها بما أحيل إليها !

ومن الفوضى التي طفقت تضرب أطنابها، أن مجلس الشورى المتوقع ـ يقينًا ـ القضاء دستوريًا بأنه غير قائم منذ تشكيله، أبى في إطار سياسة الاستحواذ والسيطرة والهيمنة، إلاَّ أن يفتح ملف الاستيلاء على الصحافة القومية !!!

من القواعد التي يعرفها رجال القانون، والتجارة، أن المشرع احتاط لمصائر عباد الله من تصرفات التاجر المشرف على الإفلاس التي تصدر فيما يسمى « فترة الريبة »، ففتح باب الطعن عليها، وعدم الاعتداد أو الاحتجاج بها، والحكم بعدم نفاذها.. ففي هذه الفترة، المريبة، لا يهتم التاجر بإنماء وترشيد وتحسين تجارته، وإنما ينصرف للعبث بترتيب أوضاع على هواه بتصرفات غير سوية يسبق بها حكم الإفلاس القادم في الأفق، يخفي ما يريد، ويسرب ما يشاء، ويسدد خانات لا علاقة لها بالحق أو أصول التجارة، وإنما لتحقيق مآرب وأغراض قبل أن يطبق عليه قضاء الإفلاس !!

ومن الفوضى التي بدا أنها ضربت في كل شىء، أنه في الوقت الذي آذن فيه حكم الدستورية العليا 14/6/2012، بأن مجلس الشورى يمضى فترة أشبه بفترة الريبة، لأن الحكم بحله أو باعتباره غير قائم قادم لا محالة لاتحاد السبب والعلّة، لأنه تشكل بذات القانون الذي قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستوريته ومن ثم بطلان تشكيل مجلس الشعب واعتباره غير قائم منذ تشكيله، وذلك مؤشر لا يفوت أي لبيب أن مجلس الشورى يمضى أيامًا انتظارًا لحكم محقق لا محيص عنه، لأن قانون تشكيله قضى فعلًا بعدم دستوريته بقضاء نهائي بات لا رجوع فيه، ولا تملك المحكمة الدستورية ذاتها الرجوع عنه، ومن ثم صار أثره محتومًا. وبدلًا من أن يلملم مجلس الشورى أوراقه، ويتأهب للرحيل، اندفع في همة ونشاط للانقضاض على الصحافة القومية وتتبيعها للإخوان.. اقتداءً، وبصورة أكثر فجاجة، بما كان يفعله الحزب الوطني، وكأن ثورةً لم تقم لإصلاح هذه الأوضاع الفاسدة. حتى الاعتبارات المهنية ومعايير القدرة والكفاءة التي كان الماضي يلتزم بها في اختياراته، ألقيت في بئر السلم، وتجاهل المجلس الأعلى للصحافة، وشكل لجنة برئاسة محاسب، وليس فيها من الصحفيين إلاّ ستة من خمسة عشر عضوًا، وطفق يذل الصحافة والصحفيين، ويفرض على من يرغب في رئاسة تحرير أن يعرض نفسه، وأن يقدم طلبًا مشفوعًا بسيرته ومقوماته ومشروعاته وأفكاره للنهوض بالجريدة، ودون التفات إلى أن من يقبل هذا الانحناء لا يرجى منه خير، ودون التفات إلى السجل الفعلي الذي ينطق بأداء بعض رؤساء التحرير الذين حققوا طفرة بالصحف التي ترأسوا تحريرها مثلما فعل الأستاذ ياسر رزق بصحيفة الأخبار !

زر الذهاب إلى الأعلى