من تراب الطريق (942).. لا وصاية لأحد في دعوة الحق
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
نشر بجريدة المال الخميس 24/9/2020
إن فهمنا الآن للحياة الإسلامية ، ومهما كانت صحة مصادره في اعتقادنا، متأثر بلا ريب بعقليتنا وظروفنا ومعارفنا وأذواقنا، وبالقيم وطرق التفكير والعوائد الفكرية والاجتماعية السائدة بيننا في زماننا ..
هذا الفهم مع مصادره الإسلامية، هو أيضًا ابن زماننا وأثره علينا وعلى عقولنا وتفكيرنا إلى آخر ما تتطبع به حياتنا مما يصاحبها مما سلف.. بيد أن الأجيال القادمة، بغير انقطاع ما امتدت موجات المستقبل، لن تعيش ـ أي هذه الأجيال ـ إلاّ في زماننا الذي سيكون في المستقبل قد ولّى وأصبح ماضيًا.. وهذه الأجيال المستقبلة لن تعيش حياتها مولّية وجهها نحو الماضي الذي كان قبل وجودها، ولن تحيا ضد حاضرها وما تأمله في مستقبلها.. وليس معنى هذا مخاصمة الماضي.. فأجيال البشر تتزود مما هو جوهري للغابرين الماضين، وتأخذ زادها مباشرة من القرآن المجيد والسنة المطهرة.. تأخذه بنفسها هي لنفسها هي وبعقليتها ومعارفها وأفكارها وأذواقها وقيمها هي.. وهذه هي سنة الله خالق كل شئ سبحانه وتعالى يغير ولا يتغير .
يعود أستاذنا محمد عبد الله محمد ليذكِّر بأن دعوة الحق دعوة عالمية من حيث هي دعوة روحية وإنسانية.. وهذه العالمية ليست عالمية دولة أو سلطة أو جهة أو جماعة أو حزب تبتغى فرض سلطانها أو سيطرتها على شعوب الأرض بحجة أن هذا السلطان هو سلطان الله عز وجل. في السالف وقع غيرنا في هذا المنزلق فلم يستطع الخروج منه سالما.. لأن هذا المنزلق كثيرًا ما يختلط فيه الميل إلى السيطرة أو الهيمنة ـ بتصور الإيمان بالله ومجد الله وحكمه.. في هذا المنزلق ـ وهذا درس التاريخ ـ تشتبك الدعوة الدينية مع السلطة الزمنية ، وتُؤْخذ الدعوة الدينية في متاهات المنافسة على الحكم وإدارة الحكم وسياسة الحكم، ثم لا تلبث الدعوة الدينية أن تجد نفسها ورقة من أوراق اللعب على مائدة السياسة.. يقبلها الحاكم أو السياسي ويحرص عليها، أو يلقى بها ويمزقها.. تبعًا لحساب الأرباح والخسائر عنده !!
إن صاحب السلطان السياسي لا ينام إلاّ وهو مطمئن إلى أن كل شئ مهم في دولته تابع لسلطانه.. حتى الدين والقائمين على الخدمة الدينية.. لذلك فنادرًا إن لم يكن محالاً ـ أن يترك السلطان السياسي لغيره تعيين أو تقديم كبار رجال الدين في دولته .. وكأنه يريد أن يكون اتجاه النفوس إلى الله مشربًا على الدوام بالاتجاه إلى السلطان ودولته يلتزم بهما ولا يبتعد عنهما !
إن دعوة الحق إذا وضعت في حسبانها رضاء السلطان ومساعدته، فإنها تدفع حتما أضعاف ما تناله من رضاء !! إن ملاذ الدعوة الأساسي بعد الله عز وجل، هو الإنسان العادي.. الآدمي البسيط غير المهم.. المنتمي لعباد الله الذين لا يطلبون المعالي أو ينشدون الشهرة والجاه والاستعراض !!
هؤلاء الناس البسطاء المستورون هم في الواقع ” نَحْل ” الدعوة الذين ينقلون لقاحها وينشرونها دون مقابل ودون انتظار لأى مقابل .. يحملونها مع الخوف عليها في صمت وتواضع، يحمونها ويحدبون عليها عبر الأجيال والمحن والأزمنة.. بهم تبقى دعوة الحق حيّة في قلوب الكثرة ولا يمكن أن تموت لغياب قادة أو رؤساء أو لغيبوبتهم. إن صلاة هذا الجمهور: جمهور العاديين المستورين، هي التي تعطى مبنى المسجد صفته وحياته، وتجعل منه بيتا خالصًا لله عز وجل.. حتى وإن كان بانيه لم يقصد ببنائه إلاّ الصيت والسمعة !
إن الطريق إلى الله ليس مقصورًا على هذا أو ذاك من الآدميين.. ويخطئ الآدمي، وهو غير معصوم ـ يخطئ الاتجاه إلى الله حين يتصور أنه هو وحده القادر على رؤية طريق الله.. مثل هذا يتجه دون أن يشعر إلى نفسه، وينكفئ على نفسه، ويحاول ما وسعه أن يلفت الناس إلى نفسه. إنه عندئذ يحصر ولا يقبل الحصر، ويسعى لاحتكار ما لا يجوز عليه الاحتكار !
إن كل دكتاتورية تبدأ من بداية مثالية، هكذا ينبه محمد عبد الله محمد، وتأخذ هذه الدكتاتورية شكل الآدمي الذى يحاولها، ومثل هذا يتصور أنه الذى يعرف طريق الله وأنه وحده الذى يفهم أوامر الله ونواهيه، وأنه وحده القادر المؤهل لتفسيرها ولا يجوز ذلك لسواه !!
واللافتة المعتادة لمثل هذا المستبد ـ هي التزام التقشف الذى يعتبره مفتاح استمالة القلوب إليه.. لا مكان عنده للحياة السعيدة، ولا للمشاركة فيها، ولا يجوز عنده أن يرفع الآدمي رأسه وينطلق في العالم الواسع بلا خوف أو بعيدًا عن وصاية هذا المستبد عليه !
يختم محمد عبد الله محمد كتابه الضافي معالم التقريب، بأن الاتجاه إلى الله مزيد من الحرية للروح والعقل، تثيره دعوة الحق تبارك وتعالى، فتصحو في الآدمي إنسانيته وتهب وتنشط فيتذكر وقد ذكر ويهتدي ويحسن الاختيار وقد أرشد ونبه. أنه ليس اتجاه قطعان أو أسراب أو حشود من الإمعات الغافلة تدفع إلى حيث يوجهها السائق، إنه ليس اتجاه نفوس تتعالى على الحياة وتحسب أن تعاليها هذا يعطيها أفضلية في عين الله على الأحياء الحقيقيين العاديين، إن الاتجاه إلى الله هو الاتجاه إليه سبحانه وتعالى في الرضاء بالحياة وقبولها بحقوقها وواجباتها، ومواقعاتها بجانبيها الخشن واللين، والاعتزاز بها وبشرفها وكرامتها وبمسئولياتها وصعوباتها وأعبائها وامتيازاتها، وجميع ما لله عز وجل فيها من آلاء وآيات لا آخر لها.