من تراب الطريق (1219)
بقلم : الأستاذ رجائى عطية، نقيب المحامين
ـــ
الإمام الطيب
والقول الطيب (52)
نشر بجريدة المال الخميس 11/11/2021
الأزهر وضوابط حواره مع الغرب
ــــ
لا ترجع مكانة الأزهر السامقة إلى مجرد قِدمه فى التاريخ , ومضى آلف سنة وخمسين على إنشائه , فقد سبقته جوامع ومؤسسات علمية وثقافية , ولكنها لم تصمد مع مضى الزمن , فمنها ما تراجع دوره كمسجد عمرو بن العاص ومسجد ابن طولون فى مصر , ومنها مؤسسات كثيرة فى بلاد العالم , ولكنها بادت واندثرت , ولا يعرف العالم مؤسسة علمية استمرت فى أداء دورها نيفًا وألف عام إلاَّ الأزهر , ولا جامعة جمعت بين العلم والتعليم , ونشر القيم الأخلاقية والإنسانية المرتكزة على تعاليم الأديان ؛ إلاَّ جامعة الأزهر .
ولنا أن نعرف أن عدد الدارسين اليوم فى الأزهر بكلياته ومعاهده يناهز الآن نصف مليون طالب وطالبة , منهم سبعة آلاف طالبة وطالب يدرسون الآن على نفقه الأزهر الشريف , ويكفل لهم الإقامة فى مدينتين للبعوث الإسلامية إحداهما بالقاهرة ، واحدة للطلبة وأخرى للطالبات , ومدينة للبعوث الإسلامية للطلاب فى الإسكندرية .
كان مخططًا للأزهر الذى بناه الفاطميون , أن يكون مركزًا علميًّا لنشر الدعوة الفاطمية وعقائد المذهب الشيعى الإسماعيلى , إلاَّ أن إرادة الله شاءت أن يكون منارة تشع منها علوم المسلمين من أهل السنة بمختلف المذاهب الفقهية وتوجهاتهم العقلية , ولا يقتصر على ذلك فينفتح لتدريس علوم وكافة المذاهب من شيعة ومعتزلة وغيرهما , ويتسع فى إطار الوسطية التى إلتزمها , لكافة الآراء فى المذاهب الفقهية والفلسفية والعقدية واللغوية والأدبية , جنبًا إلى جنب مع العلوم الفلكية والرياضية والطبية .
وعدد كليات جامعة الأزهر وقتما ألقى الإمام الطيب هذا البحث سنة 2009 , قد بلغ اثنتين وستين كلية للطلاب والطالبات موزعة فى شتى ربوع مصر , تدرس فيها كل التخصصات الدقيقة فى كل فروع العلوم الدينية والتطبيقية .
والتعليم الأزهرى الذى يُقدمه الأزهر لطلابه ؛ يتمثل فى تأهيلهم لفهم الإسلام فهمًا صحيحًا ؛ عقيدةً , وشريعةً , وسلوكًا , فهمًا يقوم على تأصيل قاعدة التعددية وقبول الرأى الآخر , والانفتاح على التنوعات التراثية التى تضمن للعقل الأزهرى أن يكون عقلاً حواريًا , ينفر من الانكفاء على مذهب واحد , يُؤمن به ويعمى بتعصبه له عن المذاهب الأخرى التى صاغت العقل الإسلامى عبر تاريخه الطويل , وأهَّلت الملسمين لصنع حضارة عالمية كبرى , لا زالت حتى هذه اللحظة موضع دهشة كثير من علماء الحضارة والتاريخ فى الشرق والغرب .
وهذه التعددية التى تُشكل لُبّ المنهج الأزهرى فى التعليم ؛ إنَّما تعود إلى الحقيقة الكونية والإنسانية التى يؤكدها القرآن الكريم ؛ وهى أن الله تعالى لو أراد أن يخلق الناس على عقيدة واحدة , ولغة واحدة , ولون واحد , وثقافة واحدة ــ لفَعل , لكنه عز وجل لم يُرد ذلك ، وشاءت إرادته أن يخلق الناس مُختلفين فى كل ذلك , بل شاءت إرادته أن يستمر قانون الاختلاف بين البشر ؛ لغةً , وعقيدةً , ولونًا , وثقافةً , إلى آخر لحظة فى عمر هذا الكون : « وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ » ( هود 118 ) .
وترتبت على هذه الحقيقة منطقيًا حقيقة أخرى , عبر عنها القرآن الكريم بأن الناس جميعًا قد خلقوا من أصل واحد .. آدم وحواء , وأن التعارف هو أساس الصلات بينهم فقال تعالى : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » ( الحجرات 13 ) .
وفى هذا النص الإلهى تأصيل لوحدة الأصل الإنسانى , وتأكيد على وجوب التآخى بين الناس فهم جميعًا أبناء أب واحد وأم واحدة , ومن ثم فلا مجال فى الإسلام لفلسفة الصراع بين الأمم والشعوب والحضارات , ولا لسياسات الغلبة والتسلط والاستقواء , أو حمل الناس على أن ينخرطوا فى حضارة واحدة أو فى ثقافة واحدة , أو حملهم على اعتناق دين معين لا دين سواه .
غير ذلك ضرب من العبث , يتناقض جذريًّا مع مشيئة الله وإرادته وجريان العادة فى كونه وخلقه .
للأسف كُتب علينا فى الآونة الأخيرة , أن نوضع جميعًا بإسلامنا ونبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ــ فى قفص الاتهام , من قِبل مؤسسات غربية سياسية ودينية , أخذت على عاتقها أن تتهم الإسلام ــ زورًا أو جهلاً ــ بالعنف والتطرف والسيف والحرب , لا يزال الغرب يعتنقها رغم ما اتضح من حقائق تكذب هذا النظر القديم الذى افتقد العلم بالإسلام .
ولقد بُذلت جهود ومحاولات من أجل توضيح الحقيقة على الجانبين ؛ الغربى والإسلامى , لكنها لم تُؤتِ ثمارَها المرجوَّة ؛ بسبب عقباتٍ كثيرةٍ ؛ أهمها : عقبة التَّعميم المعيب من بعض الغربيبن الذين يُعممون أحكامهم المسيئة على الإسلام والمسلمين , انطلاقًا من تصرفات فئة شاردة ؛ انحرفت بفَهم الإسلام ؛ إمَّا إلى حرفيّة شديدة الانغلاق والتزمت , وإمَّا إلى عُنف مُسلح , اتَّخذته أسلوبًا فى التعبير ومنهجًا فى الحوار وفى المقابل ؛ فإن بعض المسلمين فى الشرق لم يتخلَّصوا من هذا العيب حين وضعوا الغرب كله فى سلة واحدة , ونظروا إليه على أنه شرَّ مستطير وعدِّو متربص بالإسلام والمسلمين , يحب تحين الفرص لمواجهته وتحطيم أثاره قدر المستطاع .
هذا بالإضافة إلى عقبة أخرى , نتفهمها نحن المسلمين ؛ وهى : أن بعض الغربيين يتوجس خيفة من تكاثر الجاليات الإسلامية , والخشية من غلبة أنماطها الثقافية والحضارية على الشارع الغربى .
إن مشروعية زواج المسلم بكتابيةً ؛ يهوديةً , أو مسيحية , تبقى على دينها ــ فى شريعة الإسلام ـ ليست إلاَّ نموذجًا مُضيئًا لامتزاج الأديان السماوية وتعايشها فى مودَّة ورجمة تحت سقف واحد .
والإسلام فى الاندلس يكفينا مؤنة إثبات هذه الحقيقة , فقد إنفتح فى إسماح لحضارة اليهود وحضارة المسيحيين , ولم يتعامل مع أى منهما بروح العداء .
وعلى الجانب المقابل ينبغى أَلاَّ نكف عن تذكير المسلمين الذين يعيشون فى الغرب بأن يعلموا أنهم ضيوف فى حضارات لها ثقافاتها وفلسفاتها الاجتماعية والاقتصادية , وعليهم أن يحترموها ويسلموا بها لأهلها , حتى وإن لم يلتزموا بها فى سلوكهم الشخصى أو الجماعى .
صار الجميع ـ شرقُا وغربًا فى حاجة إلى حوار مباشر بين الطرفين , يوفر الفرصة لرؤية مشتركة , ويتوخى به الجميع لتأكيد على القواسم الإنسانية والحضارية المشتركة بين الشرق والغرب , ويحقق اعتماد ملامح لغة جديدة فى الحوار , تكون محلاً لاحترام وتقدير جميع الأطراف . وهذا هو ما تهدف إليه الرابطة العالمية لخريجى الأزهر الشريف .