من تراب الطريق (1203)

بقلم : الأستاذ رجائى عطية، نقيب المحامين، رئيس اتحاد المحامين العرب
نشر بجريدة المال الثلاثاء 19/10/2021
الإمام الطيب والقول الطيب (36)
القرآن الكريم حاكم لا محكوم !
ــــــــــ
لم يكن ليفوت صاحب تلك النظرة المعتسفة , أن الحقيقة الخالصة والبسيطة التى يعلمها العلماء والمخلصون , أن القرآن الكريم موجَّه للواقع ومؤثر فيه وحاكم عليه , ولم يكن قط محكومًا بغير أمر الله وإرادته .. وأنه لا يقدح أو ينال من ذلك أن تكون آية أو آيات قد تزامن تنزيلها مع حادثة أو مناسبة أو سؤال , فلم يكن شىء من هذه الحوادث أو الوقائع بعلة فى نزول آية أو آيات من القرآن .
وغنى عن البيان أن لغط النظرية يقلب مبادئ الاستدلال والقواعد والأصول , ويقلب قواعد فهم القرآن رأسًا على عقب ، ويصادر الدين ومصدره المقدس مصادرة تؤدى إلى هدم الدين , وغرضها الواضح استبعاد القرآن الحكيم استبعادًا تامًّا فيما أسمته النظرية « مشروع النهضة والتجديد » !!!
وقد حرص فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب على إبداء أنه لا يتهم صاحب «التراث والتجديد » , وإنما سجل فقط ما ظهر له فى قراءة المشروع من تناقض لا مفر من الوقوع فيه لمن يريد أن يُنْسب القرآن الكريم إلى مصدرين معًا : مصدر إلهى ومصدر مادى فى وقت واحد , فإذا لم يرفض الباحث أو ينكر أن القرآن كان وحيًا , فإنه لا سبيل أمامه لرد الأمور إلى مصادر مادية تؤثر فى القرآن وتتحكم فيه ـ والعياذ بالله ـ ولا تتأثر به وتنزل على حكمه الإلهى المقدس !
وبصراحة لا محيص عنها ، أستأذن فى إبداء أنه يجب على الباحث ـ أى باحث ـ أن يحدد ابتداءً موقفه من القرآن الكريم ، هل هو « بشرى » ، أم هو « وحى إلهى » ، فإذا سلَّم بأنه وحى إلهى ، فلا مفر أمامه من التسليم بتأثير القرآن فى الواقع ، وليس التأثر به فى إيراد أحكامه الإلهية !
هذا ولم يشأ الدكتور الطيب أن ينبه إلى القاعدة الأصولية بغير دليل ، فاستعرض أقوال أئمة فى الفقه والتفسير ، لبيان معيار التفرقة والتمييز فيما يعد من أسباب النزول وما لا يعد كذلك ، وليضع أمام القارئ أنواعًا خمسة من الأسباب التى صحت أسانيدها :
النوع الأول : ما يتوقف فهم الآية على العلم بسبب النزول ، وهذا هو النوع الوحيد الذى ينطبق عليه أنه سبب نزول ، وهو يستلزم من المفسر علمًا صحيحًا به يمَكَّنه من الفهم والتفسير .
النوع الثانى : حوادث نزلت فيها تشريعات وأحكام ، لكن هذه الحوادث وأمثالها « لا تبين مجملاً ، ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد ، ولكنها إذا ذُكرت أمثالها ، وجدت مساوية لمدلول الآيات النازلة عند حدوثها » . وواضح أن هذا النوع ليس سببًا مؤثرًا فى نزول القرآن ، وإنما هو داخل ضمن توجيهات الآيات النازلة بعد هذه الحوادث .
النوع الثالث : حوادث متكررة تختص بشخص معين ، فتعلن الآية المنزلة شأنها وتبين أحكامها ، وتتوعد من يقترفها ، ومعظم المفسرين يقولون عند تفسير هذا النوع من
الآيات : « نزلت فى كذا » ، يريدون بذلك الإشارة إلى الأحوال التى تشير إليها . وهذا القسم أكثر من ذكره أهل القصص وبعض المفسرين لحكمة لا تفوت .
النوع الرابع : حوادث لم يرتبط بحدوثها نزول شىء من القرآن ، ولكن فى آياته السابقة أو اللاحقة ما يناسب معانى هذه الحوادث ، « فيقع فى عبارات بعض السلف ما يوهم بأن تلك الحوادث هى المقصودة من تلك الآيات ، مع أن المراد أنها مما يدخل فى معنى
الآية » .
وأورد الإمام الأكبر قول الزركشى فى « البرهان فى علوم القرآن » ( 1/32 ، 33 ) :
« عرف من عادة الصحابة والتابعين أنه إذا قال نزلت الآية فى كذا ، فإنه يريد أن الآية تتضمن هذا الحكم ، لا أن هذا كان السبب فى نزولها » ، وبمثل ذلك قال الجلال السيوطى فى « الإتقان فى علوم القرآن » (1/83) .
النوع الخامس : حوادث تبين معانى مجملة فى الآية ، أو تدفع أمرًا متشابهًا فيها ، أو تبين مناسبات الآيات ، وهى على كل هذه الأحوال ليست أسبابًا للنزول .
وقد عقب الإمام محمد طاهر بن عاشور ، صاحب كتاب التحرير والتنوير , وأحد أئمة تفسير القرآن الكريم فى العصر الحديث ـ عَقَّب على هذه الأقسام فيما أبدى الدكتور الطيب ـ بقوله : « هذا وإن القرآن كتاب جاء لهَدْى أمة والتشريع لها ، وهذا الهَدْى قد يكون واردًا قبل الحاجة ، وقد يكون مخاطبًا به جميع قوم على وجه الزجر أو الثناء أو غيرهما ، وقد يكون مخاطبًا به جميع من يصلح لخطابه ، وهو فى جميع ذلك قد جاء بكلياتٍ تشريعية وتهذيبية » . (التحرير والتنوير 1/50) .

أشرف زهران

صحفي مصري، حاصل على بكالريوس إعلام، ومحرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين، ومكتب النقيب،
زر الذهاب إلى الأعلى