من تراب الطريق (1202)

بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين، رئيس اتحاد المحامين العرب

نشر بجريدة المال الأثنين 18/10/202

الإمام الطيب والقول الطيب (35)

ــــــــــ

يتضح ما أسلفناه بجلاء فى ركائز لتلك النظرية لا يفوت مغزاها !!!

أولهـا : فى ارتباط التراث الإسلامى القديم بواقعه الذى نشأ فيه ـ ارتباطًا عضويًّا !!

وثانيها : فى أن الواقع هو مصدر هذا التراث ، فالتراث على ذلك تابع لا متبوع !!

وثالثها : فى أن التراث جزء من الواقع ، وعلى ذلك فالقرآن والسنة وفقًا لهذا المنظور المعكوس جزء من الواقع ، وليسا مصدرًا قدسيًّا مقدسًا لتغيير الواقع الذى

كان !!

ورابعها : أن التراث ـ بتعميم خطير !!! ـ ليس حقيقة موضوعية دائمة ، وإنما تعبير عن موقف تاريخى محدد , وعن تصور معين لجماعة خاصة .

 

وهنا يقرع فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب ـ يقرع الأجراس للتنبيه إلى النتائج الخطيرة جدًّا المستهدفة من تقرير « أصالة الواقع وتبعية التراث » ، فالدين إذن ـ وبكل مصادره !! ـ تابع لا متبوع ، ومن ثم يصير من المسموح ـ بل اللازم فى مراد النظرية ـ أن يكون للمجتمع الجديد « تراث جديد » يعبر عن الواقع الجديد الذى يعيشه المجتمع ، أما التراث القديم ـ بتعميم شامل مقصود ـ والمرتبط ـ مرحليًّا !!! ـ بواقع مضى وذهب وتولَّى ، فقد مضى زمانه وتخطاه التاريخ المعاصر وخلَّفه وراءه !!

ثم تفصح هذه النظرية ، بل وتؤكد فى عدة مواضع ، أن هذا التراث القديم ( المرفوض ! ) لا يزال يشكل بكل أبعاده النسيج الداخلى لأفكارنا وتصوراتنا ومشاعرنا .

ولست أميل إلى طرح احتمالات لمقصود هذا الاتجاه ، فهو دعوة واضحة وصريحة إلى انتزاع مكانة الدين من العقائد والأفكار والتصورات والمشاعر ، وإحلال بديل يضاد التراث الإسلامى بكل مصادره وأصوله ومشتملاته .

تساند متهافت مغلوط

ولا يجدى صاحب هذه النظرة ، تسانده إلى علم « أسباب النزول » وعلم « الناسخ والمنسوخ » ، لاعتساف القول بأن التراث ـ فى سبب النزول أو فى النسخ ـ كان تابعًا للواقع ملبيًا له ، ولم يكن مؤثرًا فيه !!!

وعلى مقتضى هذه النظرةٍ ـ فى فهم صاحبها ـ فإن الوحى نزل حسب متطلبات الواقع , أى طبقًا لأسباب النزول , وليصل من ذلك إلى الهدف المقصود , أن الوحى ليس كتابًا أُنزل مرة واحدة مفروضًا من عقل وإرادة إلهية ليتقبلها ويلتزمها جميع البشر , بل هو وقد نزلت آياته منجمة إبان ثلاثة وعشرين عامًا ـ مجرد مجموعة من الحلول لبعض المشكلات

اليومية , بل وإن كثيرًا من هذه الحلول كانت مجرد استجابة لمقترحات من الفرد أو الجماعة ثم أيدها الوحى أو استجاب لها . وهذا فى نظر صاحب هذه الاتجاه هو معنى « أسباب

النزول » !!!

ويفوت صاحب هذه النظرة , فى هذه القفزة ( الخطيرة ) , أنه لم يكن لكل آية من آيات القرآن سبب نزول , وأن القرآن الكريم نزل على قسمين : قسم نزل ابتداءً , وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال , وأن نزول الذكر بمناسبة أو عقب واقعة أو سؤال ـ لا يعنى أنه استجابة أو تلبية , وإنما أراد به الشارع الإلهى فرض الحكم الذى يلتقى فى الغاية مع القسم الأول الذى نزل ابتداءً من القرآن .

أما القول بأن القرآن الكريم نزل « طبقًا لأسباب النزول , وتبعًا لإمكانيات تقبله » , فإنها قالة مغرقة فى الخطأ , لم يعرفها تراث الإسلام , بل ويأباها هذا التراث ـ فيما يبدى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب ـ وينكرها أشد الإنكار ؛ ولذلك لم يستطع القائل بهذا اللغط أن يدعمه بشىء ذي بال من أقوال العلماء , بل دارت كتاباته فى إطار الأمانى التى عز عليه تحقيقها , لأنها فى واقعها نقيض الأصل الذى جاء يحدثنا عنه !!!

وغنى عن البيان الذى ما كان يفوت صاحب هذا اللغط , أن هناك خلطًا نَبَّهَ إليه الجلال السيوطى فى كتاب « أسباب النزول » , بين تفسير الآية وسبب نزولها , فاعتقد البعض ـ على غير فهم صحيح ـ أن تفسير الآية سببٌ أو مناسبةٌ لنزولها , ومن هذه الأمثلة التى تمثل بها الجلال السيوطى أن قصة قدوم أبرهة الحبشة واستهداف الكعبة , لم تكن سببًا لنزول سورة الفيل , وإنما أخبرت السورة بحوادث وقعت قبل النزول بل وقبل البعث بسنين عديدة , ومن ثم فهى ليست من أسباب النزول , بل من باب الإخبار عن وقائع ماضية , وعلى مثل ذلك جاء ذكر قصص الأنبياء مع الغابرين من أقوامهم , كقوم نوح وعاد وثمود , وكقصة يوسف عليه السلام مع إخوته ثم مَقدمهم وأبيهم يعقوب إلى مصر .

وعلى ذلك فليس صحيحًا ما يقال إن أسباب النزول استوعبت الكتاب الكريم , وتحكمت فى نزوله , ناهيك بالقفز إلى أنها نزلت لمتطلبات الواقع واستجابة له , وإنما الصحيح أن قدرًا كبيرًا جدًّا من القرآن الكريم نزل ابتداءً بلا أسباب أو مناسبات أو مقتضيات من الواقع , ولا كان إجابةً على أسئلة .

ويذكر الإمام الأكبر الدكتور الطيب أنه إذا كان نزول بعض الآيات قد تزامن مع مناسبات أو حوادث جزئية , فإن آيات التوحيد لم ترتبط أو تقترن بشىء من ذلك ، وأن التزامن مع الحوادث يقتضى فى أصول البحث العلمى واستقامة المقاصد ـ التمييز بين التفسير , وبين المناسبة أو السبب , فضلاً عن تعدد المناسبات والأسباب التى يقال إنها تزامنت مع نزول آية أو آيات , مما يضعنا أمام حكمٍ نزل لا مجرد استجابة لمناسبة أو سبب .

وأعتقد كما أفصح الدكتور الطيب , أنه لم يكن ليفوت صاحب هذه النظرة , القاعدة الأصولية التى تقرر أن « العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب » , وأن هذه القاعدة الأصولية تنسف من الجذور محاولة ربط القرآن بالواقع ربط معلول بعلة .

أشرف زهران

صحفي مصري، حاصل على بكالريوس إعلام، ومحرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين، ومكتب النقيب،
زر الذهاب إلى الأعلى