من تراب الطريق (1198)

الإمام الطيب والقول الطيب (31)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 12/10/2021
ـــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ : رجائى عطية

الإمام الطيب
والقول الطيب
(31)
ــــ
على أنه ما إن تهاوت البناءات الفلسفية الماركسية مع سقوط الاتحاد السوفييتى ، حتى بدأت موجة جديدة للتضليل والالتفاف على المقدسات الإسلامية ، وانصرفت هذه الهجمة إلى « التراث الاسلامى » والعبث به وتقطيع أوصاله ، فى إطار نظريات متعددة غايتها واحدة هى إقامة « مذبحة للتراث » !
وفارق يدركه العقلاء المخلصون ، بين تجديد التراث ، وبين هدمه وتقويضه كله ، ويذكر الإمام الأكبر أحمد الطيب لطائفةٍ من كبار مفكرينا الأصلاء ، أنهم نظروا إلى التراث نظرة شديدة التوازن ، ونبهوا إلى أن إهدار كل تراثنا العقلى والنقلى فى مشروع النهضة ، هو بمثابة « الانتحار » أو الدمار الحضارى والسقوط فى هاوية لا قرار لها . وأنه لا يمكن أن يستوى تحديث الحضارة دون الاعتماد على « تراثها » فى عملية التحديث ، وذلك حتى تستبين شخصيتها وتتحدد لها ملامحها وقسماتها بين الحضارات الأخرى .
ولا يفوت الدكتور الطيب التنبيه إلى أن التراث يُؤخذ منه ويُردُّ عليه ، يؤخذ منه ما يكون ثقافة تقبل أن نعيشها الآن ، ويُردُّ ما كان ثقافة لصيقة بالعصر الذى أنتجها وسوَّغها وارتبطت به ، ولم تعد الآن من هموم العصر ، ولا تتفق مع تطوراته ومصالحه .
وهؤلاء فيما أبدى ـ هم المتوسطون ، الذين ميزوا بين الثوابت والمتغيرات ، ونادوا بالحفاظ على الثوابت ، ونظروا إلى المتغيرات ـ مع احترامها ـ فى إطار تبدلاتها وتحولاتها التاريخية ، حسب تطور الظروف وتقدم العصور وطروء المستجدات ، مما يقتضى التجديد وفتح باب الاجتهاد .
على أن ذلك لا يعنى ـ كما ذهب متطرفون ـ إطلاق الحبل على الغارب لكل مثقف حتى وإن أعوزه التأهيل واستيفاء شروط الاجتهاد وضوابطه ، وللأسف فإن بعض هؤلاء قد رأوا أنهم جديرون بحركة إحياء التراث بغرض تطويعه لمستجدات العصر ، ومن هؤلاء من جَرَّد التراث من أخص خصائصه وهو « قداسة النص » ، واستبدل بها ما يسمى عندهم « تفكيك المقدس » ومن هؤلاء من حَصَرَ التراث أصولاً وفروعًا فى فترة تاريخية منتهية ، وهؤلاء فيما أبدى ـ هم أصحاب مذهب « تاريخانية النص » ، ومنهم من أحال التراث برمته إلى أصول مادية ، ليسلك به فى درب المذاهب المادية التى تقف عند حدود « المحسوس » ، ولا تعترف بما وراء العالم المادى .
ومن هؤلاء المتطرفين المشتطين ، من لجأ إلى تطبيق علم « الهيرمينوطيقا » فى تفسير النص القرآنى وتأويله ، ونادى بأن فهم النص غير ثابت وليس نهائيًّا ، وأن قراءته مفتوحة وبلا فرق بين نص أدبى ونص دينى ، بل ويرون أن القرآن ـ عندهم ـ نص لغوى ، تكوَّن فى ثقافة عصره وتاريخها ، وأنه من ثم لا يمكن فصله عن بيئته وثقافته التى نزل فيها !
وليس هذا الإيغال فى الشطط هو كل توجه هؤلاء ، بل تمادوا إلى التسوية بين النص القرآنى المقدس ، والنصوص التاريخية ، ومدوا ذلك إلى نصوص التوراة والأناجيل فى الخضوع للقرارات الحداثية ، غير عابئين بالفروق الدقيقة الحاسمة بين نص القرآن ومصدره واحد لم يتغير قط ، فهو « إلهى مقدس » أساسه الوحى المبلغ بنصه إلى الرسول ، وبين كتابات أو إلهامات مؤلفة ومدونة ، رواها بشر بصياغتهم وليس كالقرآن الذى لم يصغه
بشر ، ولم يتدخل أحد أيًّا كان فى صياغته ، ولم يكن للنبى عليه الصلاة والسلام من دور أو عمل إلاَّ نقله وتبليغه كما سمعه ووعاه عن الوحى الالهى ، حرفًا حرفًا وكلمةً كلمةً ، فضلاً عما توفر له من توثيق وحفظ وصيانة وخلود ، مما لم يتوفر لأى نص آخر من النصوص التاريخية أو الدينية أو الأدبية أو غيرها .
إن ما ساغ للغربيين فى القراءات الحداثية لنصوص مروية مات أصحابهـا ، قائلين بأن الفكر الحداثى يشتغل بالإنسان وينفض يديه من « الإله » جملة وتفصيلاً ، وأن العقل وحده هو المرجع وليس الوحى الإلهى ، وهو ما لا يمكن أن ينسحب على « النص القرآنى » بمصدره الإلهى بحرفه ولفظه .
ولعله قد اتضح الآن خطورة القضية ، وشطط توجهات البعض فيها ، مما اقتضى من الإمام الأكبر أن يعرض لها مقدمًا لها بهذه المقدمة ، ليتناولها بمنهجية علمية فقهية ، متصديًا لقالة البعض : « إن التراث بأصوله وفروعه ، لا يصلح للاعتماد عليه فى هذا العصر ، وأنه لا بد من إعادة إنتاجه وتوظيفه عبر التجديد »
ولا خلاف على التجديد بل ولزومه ، إذا ما تم على أساس استبقاء الأصول والثوابت ، وكل النصوص القطعية ، مع الاجتهاد المنضبط بالنقل والعقل فى الفروع الظنية أو المتغيرة القابلة للتحرك لمواكبة ما يستجد من الحوادث والنوازل والقضايا .
وفى هذا البحث فيما أبدى الإمام الأكبر ، دعوى ومقدمات واستدلالات ، وفيه أيضًا مناقشات واعتراضات وردود .. أوردها فضيلته قيامًا بالواجب وإبراءً للذمة وابتغاء مرضاة الله تعالى .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى