من تراب الطريق (1186)

نشر بجريدة المال الخميس 23/9/2021
ـــ
بقلم : رجائى عطية

الإمام الطيب
والقول الطيب
(18)
تراثنا الفقهى المفترى عليه
ـــــــــ
يتناول الإمام الطيب فى هذه المحاضرة التى ألقيت فى أكتوبر 2017 بمؤتمر « دور الفتوى فى استقرار المجتمعات » ــ يتناول القضية من باب أوسع ، هو بيان كيف يقع الإفتراء على تراثنا الفقهى .
يصف كلمته فى مستهلها ، بأنها شكوى الغريب ، يحملها إلى أهل العلم ، وسدنة الشريعة ، وحراس القيم السماوية ، مما تعج به الساحة الآن ؛ من اكتساح العملة الزائفة للعملة الحرة الأصلية فى مجال الفتاوى وتبليغ شريعة الله للناس ، وتصدر بعض أدعياء العلم حلقات تشوية الإسلام ، والجرأة على القرآن والحديث وتراث المسلمين ، وجلوسهم على مقاعد العلماء فى حملةٍ موزعة الأوار ، وفى جرأةٍ ممقوتة ، ما يظنها تخفى على أحدٍ ، ممن يضيق بهذه الفوضى ، وينشغل بهذا الهم الذى لا هم يفوق خطره ، حتى لو كان هم العيش وضرورات الحياة .
لقد ظلت الفتوى ــ ولا زالت ــ يُعهد بها فى عالَمنا العربى والإسلامى لأهل العلم والنزاهة والتجرد والأمانة على أحكام الدين ، وكانت دور الإفتاء هى الجهات الوحيدة التى يعرفها الناس ، ويطرقون أبوابها كلما حزبهم أمر البحث عن حكم الله تعالى فيما يطرأ لهم من
شؤون الدنيا والدين ، وفيما يرغبون ان تستقيم على هديه حياتهم ؛ إبراءً للذمة , وطمعًا فيما عند الله .
ويحدثنا الإمام الطيب عن تجربته حين اختير مفتيًا للديار المصرية ، وكيف استقبل هذا الإختيار مفكرًا مترددًا ، خوفًا من أن يحل حرامًا ، أو يحرم حلالاً ، ولم يكن التأهل الفقهى هو الذى يقلقه ، فقد تعلم على يد علماء كبار موسوعيين ، تولوا رعايته وأترابه رعاية علمية فى الأصول والفروع ، وبخاصة فى مادة الفقه ، وتلقوا فى بداية ستينيات القرن الماضى بكلية أصول الدين عن العلامة الإمام محمد أبو زهرة ـ رحمه الله تعالى ، مادتى الأحوال الشخصية وأصول الفقه ، وقد تلقيت شخصيًا عنه بكلية حقوق القاهرة بمنتصف خمسينيات القرن الماضى ، وكان رحمه الله دوحه تحف بالعلم والفكر .
كانت هذه الخلفية الفقهية والأصولية ولوازمها من العلوم الأخرى التى يدلى الإمام الطيب بانهم أسندوا إليها ظهورهم فى مقتبل العمر ــ وهى التى شجعته على قبول مهمة الإفتاء ، وقد تبين له أن أغلب الأسئلة مما تسهل الإجابة عليه ، وأن بعضًا منها لا يمكن أن يستقل بالإفتاء فيه مُفتٍ واحد ، مهما بلغ حظُّه من الإحاطة بعلم الفقه والأصول ؛ مثل : مسائل البنوك , ونقل الأعضاء ، وبنوك الدم ، والحقن المجهرى ، وتحديد الجنين ، وغير ذلك .
ويحدثنا بأنه كان يناقش ما يرد من هذا النوع من القضايا فى جلسات مجمع البحوث الإسلامية ، وأنا شخصيًا شاهد على ذلك ، حيث يتوفر له من اهل الإختصاص ما لا يتوفر لدار الإفتاء ؛ كالأطباء ، ورجال الإقتصاد والبنوك ، وعلماء الهندسة الوراثية ، وأساتذة القانون ، وغيرهم ، ثم يعتمد الرأى الذى ينتهى إليه المجلس .
ويروى الإمام الطيب أنه فى تلك التجربة ، التقى بصحبة المرحوم الإمام الأكبر الراحل ، الدكتور / محمد سيد طنطاوى ، بالمرحوم المستشار / فاروق سيف النصر وزير العدل آنذاك ، وهو يخشى أن يتلقى منه توجيهات من النوع الذى يتهامس به الزملاء وغيرهم ، إلاَّ أنه فوجئ به ـ رحمه الله ـ يقول له وهو يسلمه القرار : قل ما يُرضى ضميرَك ، وما يخلصك من المسؤولية أمام الله تعالى ، وقد أبرأنا ذمتنا باستلامك هذا القرار .
ويشهد الدكتور الطيب بانه تولى مهمة الإفتاء عامًا ونصف العام ، يعمل فى حرية مطلقة وحَيْدة تامة ، وفى احترام واضح من المسؤولين ، ومن الناس ، ومن الصحافة والإعلام ، حتى أبتلى أهل العلم الصحيح وأهل الفتوى فى هذه الأيام بنوع من الضغط والمضايقات لم يعهدوه ، وذلك بالهجوم على تراث المسلمين ، والتشويش عليه من غير مؤهلين لمعرفته ولا فهمه ، لا علمًا ولا ثقافة ، ولا حسن أدبٍ أو احترامٍ لأكثر من مليار ونصف المليار ممن يعتزون بهذا التراث ، ويقدرونه حق قدره ..
ولم يَعدم هذا الهجوم المبيت بليل دعاوى زائفة ، يغلف بها للتدليس على الشباب ؛ كدعاوى التنوير ، وحرية الإبداع ، وحق التعبير ، بل حق التغيير ، حتى لو كان تغييرًا فى الدين وشريعته ..
وأصبح من المعتاد المتكرر : اقتطاع عبارات الفقهاء من سياقاتها ودلالاتها ؛ لتبدو شاذة منكرة ، يَنبو عنها السمع والذوق ، قبل أن تبث فى حلقات نقاشية ، تلصق من خلالها بشريعة الإسلام وأحكام الفقه ما ليس فيهما ، عبر حوارٍ ملؤه السفسطة ، والأغاليط ، والتشويش ، والخطأ فى المعرفة ، والعجز عن إدراك الفروق بين توصيف الفعل فى ذاته ، والآثار الشرعية المترتبة عليه .
وإلى هنا يبدو أمر هذه الفوضى متوقعًا ، إذا ما أخذ فى إطار الأعاصير العاتية التى هبت على منطقتنا ، ودمرت منها ما دمرت ، وأبقت ما أبقت حتى يحين قطافه فى أجندة
المدبرين .
ليس من الصدفة البحتة أن يتزامن ، فى بضع سنوات فقط ، تدمير دول عربية وإسلامية بأكملها ، مع دعوات مريبة ، تنادى بضرورة تحطيم هيبة الكبير واحترامه ، وتنظر إلى هذا التقليد الذى نفخر بتنشئة أبنائنا عليه ــ نظرة احتقار ــ بحسبانه سلوكًا لم يعد له مكان فى ثقافة الفوضى الحديثة ، مع خطة مريبة لتحطيم تراث المسلمين والسخرية من أئمته وأعلامه ، وفى سعار جامح يعكس حجم المؤامرة على حضارة الإسلام .
يتزامن ذلك مع هجوم مبرمج على الأزهر ، حتى أصبح من المعتاد إدانة الأزهر ، وإدانة مناهجه عقب أية حادثة من حوادث الإرهاب ، فى سعى بائس فاشل لمحاولة خلخلة رصيده فى قلوب المسلمين ، وحتى صرنا نعرف توقيت هذا الهجوم الذى يتزامن مع إحدى حالتين ؛ الأولى : وقوع حوادث الإرهاب ، والثانية : كلما أحرز الأزهر نجاحًا فى تحقيق رسالته فى الداخل او فى الخارج .

زر الذهاب إلى الأعلى