من تراب الطريق (1182)
من تراب الطريق (1182)
نشر بجريدة المال الأحد 19/9/2021
ـــ
بقلم الأستاذ/ رجائى عطية، نقيب المحامين
الإمام الطيب
والقول الطيب
(14)
السنّة والبدعة
السنّة والبدعة ، موضوع قديم ، يتجدد الحديث فيه من وقت لآخر ، تدعو إليه مستجدات الخلط الذى تقع فيه الجماهير والعامة ، وعدم التفطن جيدًا لمفهوم البدعة ، يؤدى إلى اضطراب الأمور ، اضطرابًا قد يقع فى أذهان العلماء .
يساهم فى زعزعة الاستقرار ، ما يبثه دعاة الفضائيات أو بعض أئمة المساجد ، من الخلافيَّات فى الفروع القابلة للتأويل ، الأمر الذى يربك الناس ، ويزعزع استقرارهم وطمأنينتهم ، ويشغلهم بالجدل السئ الذى لا نفع فيه ، بل يزيد البلبلة .
يحدثنا الإمامم الطيب ـ فى مؤتمر عقد بمسجد النور بالعباسية فى نوفمبر 2008 ، كيف شاهد فى قناة فضائية متخصصة فى تشويه صورة الإسلام ، مذيعًا يسخر من المسلمين بعرض صورة لشيخ فضائى متقدم فى السن ، وإلى جواره إناء فيه ماء ، ليعلّم الناس الوضوء السنّى ، بحركات تمثيلية معقدة ، ليقول أى الأصابع يمسح باطن الأذن ، وأيها يمسح ظاهرها ، وكيف يكون وضع كل إصبع .. الخنصر والبنصر والوسطى بالنسبة للإبهام . وليعلق المذيع فى آخر المشهد ساخرًا : « كان الله فى عون المسلمين ، يلزمهم كتالوج علشان يعرفوا وضوءهم » .
وغاية هذا المخطط ، فيما ينبّه الدكتور الطيب ، إحداث الفوضى ، الخلاّقــة أو البناءة (؟!!!) ، والتى تستهدف تحويل الساحة إلى حراك فكرى مضطرب لا ضوابط له ، ولا قيود ، ولا حدود !
وهذه سفسطة وقضية كاذبة ؛ لأن أبسط قواعد المنطق البشرى تُقرِّر أن الفوضى لا تلد إلاَّ فوضى ، وأن العقل السليم لا يتصور أن تخلق الفوضى نظامًا وحكمة وتقديرًا ، لسبب بسيط جدًّا ، يعلمه أصغر تلميذ دارس للعقليات ؛ هو أن الفوضى عدمٌ ، بينما النظام وجودٌ ، وأن العدم لا يخلق الوجود بحال .
وللأسف الشديد ؛ تحولت هذه الأوهام السوفسطائة فى أذهان البعض من كبار قادة العالَم إلى سياسة مُورسَت بالفعل فى الشرق ، ودفع فيها المسلمون ثمنًا باهظًا ومُرعبًا ، تَمثل فى هذه الدماء التى سالت أنهارًا فى حروب طاحنة ، دارت رحاها فى العراق وأفغانستان ( سوريا وليبيا الآن ) وغيرهما من بُؤر التوتر فى عالمنا الإسلامى .. دع عنك فلسطين وعذاباتها التى لم تتوقف منذ أكثر من نصف قرن من الزمان ، ولو رحت تسرح نظر العين ونظر القلب ، باحثًا عن سبب واحد يبرر كل هذه المآسى والكوارث فسوف يعييك البحث ، ويرتد إليك البصر خاسئًا وهو حسير ؛ اللهم إلاَّ هذه الإرادة الغشوم فى سيطرة الغرب المادى على الشرق الإسلامى علمًا وتعليمًا وسياسةً .
ودون حاجة إلى اعتناق نظرية المؤامرة ، فإن قراءة الواقع قراءة هادئة متمعنة تفرض علينا هذا التفسير التعيس ، الذى يصلح أن يكون علّة يستقيم معها تعليل هذه الظواهر العبثية البائسة ، ويلتوى عليك إن رُحت تفهمها فى ضوء سبب آخر غير تسلُّط القوى الموحدة من جانب ، وهزال الكيان الممزق من جانب آخر .
لو تأملنا خريطة الدنيا وظللنا مناطق الحروب والصراع المسلح فى أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية ، أو اليابان والصين ، أو استراليا وروسيا أو أوروبا الشرقية ، فإنك لن تجد منطقة واحدة تستطيع أن تشير إليها لتسمع فيها قعقعة السلاح ، أو ترى جريان الدماء رخيصة رخص الماء ، أو تشم رائحة البارود مع الموت والدمار .. مع أن هذه البلاد هى التى تصنع السلاح ، وأدوات الحرب الفتاكة والعملاقة ؛ فهل هناك اتفاق خفىّ بين ضفتى الأطلسى ، على أن يعمل السلاح بعيدًا ، وعلى أرض قصية ؟ وهل هنا سايكس بيكو جديد ؟ وهل آلَ الشرق العربى إلى رجل مريض ، مطلوب توزيع تركته ؟ لقد ظهرت كتب عدة ؛ بعضها مترجم ، وبعضها مكتوب بالعربية ، تجيب على هذه الأسئلة بالإيجاب والتأكد .
وهنا نعود إلى الفرضية الأولى فى هذا المبحث ؛ وهى أن البلبلة التى يعيشها العالم الإسلامى ، هى جزء من خطة تدبر أو دبّرت لنا بليل ، ويجرى الآن تنفيذها وإنزالها على الواقع .
وحسبك أن تنظر إلى الساحة الآن ؛ لترى أن هناك تحركات حيّة لشق الصف الإسلامى ، وضرب وحدة المسلمين ، وبأى ثمن ، فالدولارات موجودة وجاهزة ، وبأرقام فلكيّة ، والخطط العليا مرسومة ، وأخبثها وأشدها فتكًا بوحدة المسلمين : اللعب على أوتار الخلافيات الدينيّة ، والعقديّة ، والمذهبيّة ، والفقهيّة … وهذا الواقع المر ليس مبالغةً أو تهويلاً ، وإنما مأساة علينا أن نواجهها ونحتشد لها .