من تراب الطريق (1155)

من تراب الطريق (1155)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 10/8/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

مثل الرجل والمرأتين !

ظل مجلس القاضي المعقود لمحاكمة « دمنة »، بتدبير أم الأسد وبتحريض النمر ونكاية سيد الخنازير، ظل في انتظار أن يفصح « دمنة » عما أشار إليه عن حكاية الرجل الذي قال لامرأته: « أبصري في عيبك يا سفيهة ثم عيبى غيرك ! ».

نظر دمنة إلى الرءوس المعلقة بما سوف ينطق به، وحال كل منهم يقول لنفسه: ترى ماذا سوف يقول هذا الأريب المراوغ .. ثم طفق دمنة يقول بعد أن أثار أشواقهم للسماع:

« زعموا أن مدينة كانت تدعى « بورخشت ».. دخلها الأعداء مرة فقتلوا من كان فيها عالماً، وسبوا نساءهم، واقتسموا السبى. فأصاب جندي من العدو حرّاثاً ( زارعًا ) مع امرأتين. فكان ذلك الرجل يعريهم من الكسوة ويصومهم عن المطعم والمشرب، فانطلق الحراث يوما من الأيام مع الرجل والمرأتين ليحتطبوا، فوجدت إحداهما خرقة فاستترت بها، فقالت الأخرى لبعلها ( زوجها ): ألا تنظر إلى هذه كيف تمشى بخرقتها ؟! فقال زوجها: « ويلك . ألا تبصرين نفسك فتسترى مثلها ثم تكلمي » ؟!!

صمت دمنة برهة يرقب تأثير حكايته، قبل أن يستأنف تقريعه لسيد الخنازير الذي مالأ وحرض عليه بحجة مغلوطة، فقال له: « فأما أمرك أنت فأعجب فيما عرفت من قذارة جسمك ونجاستك وجرأتك مع ذلك على الدنو إلى طعام الملك، والقيام عليه وبين يديه كالبريء من العيب والنقي من الدنس ! إنه لم يمنعني من إبداء عيبك قبل اليوم إلاَّ مودة كانت بيني وبينك . فأما وقد طعنت علىّ وابتدأتني بالظلم لما انطويت عليه من عداوتي وقذفتني بالباطل بمحضر الجند . فإنني قائل بما أعلم من عيبك، مبدٍ الذي أخفيت من دنسك الذي ليس لك معه أن تخدم الملك ولا الذي تحته . فقد حق على من عرفك حق المعرفة أن يمنع الملك من استعمالك، ويدفعه إلى عزلك عن طعامه » !

لما سمع سيد الخنازير هذه الحجج الدامغة من دمنة، بهت وتلجلج لسانه واستحيا، وكفَّ نفسه وكف جميع من حضروا من الجمع . عن القول في شيء من أمره.

ولكن كان بين الحاضرين من قد جربه الأسد ملك الغابة، فوجد فيه أمانة وصدقاً، فاتخذه في خدمته، وأمره أن يحفظ جميع ما يجرى بينهم ويطلعه عليه .. فلما سمع ما كان من هذا الحوار انطلق إلى الأسد فدخل عليه وأعلمه بحديثهم من أوله إلى آخره، دون أن يكتم عنه شيئاً . فلما سمع الأسد ذلك، أمر بعزل سيد الخنازير عن عمله، وأصدر أوامره بمنعه من الدخول عليه، وحظر على الحاشية أن يدعوه يريه وجهه، ثم أمر بدمنة أن يُرد إلى السجن . وكتب ما جرى في محاكمته، وختم عليه النمر.

وكان لكليلة في حاشية الأسد صديق يدعى « روزبة » .. بينه وبين كليلة إخاء ومودة، وكان عند الأسد وجيهاً وعليه كريماً . فانطلق « روزبة » إلى « دمنة » وأخبره بموت كليلة، وبأنه قضى إشفاقاً من أن يتلطخ بشيء من أمر أخيه وحذرا عليه . فبكى دمنة حزناً على كليلة، وقال لصديقه « روزبة »: « ما أصنع بالدنيا بعد مفارقة الأخ الرحيم والصديق الحميم .. حقاً إن المصائب لا تأتى فرادى . ولكن أحمد الله تعالى إذ لم يمت كليلة حتى أبقى لي أخاً مثلك » .

وجعل دمنة يطرى « روزبة »، ودله على الموضع الذي يحتفظ فيه وكليلة بثمار سعيهما، وأعطاه له، ثم جعل يزين له أن يكون عينه ومعينه لدى الأسد، بأن ينقل إليه ما يرفع إليه عنه من الخصوم، وما تبديه أم الأسد في حقه، وأن ينقل إليه ما يدور ويعلمه به.

لم يقصر « روزبة » في أداء مهمته في بلاط الملك، فما إن رأى القاضي يدخل على الأسد ويعلمه بما قال دمنة في معاذيره، وقيام الأسد باستدعاء أمه وقراءة ما كان عليها، وغضبها ونذيرها لابنها الملك بأنه لا يعلم ما يضره مما ينفعه، وأن « دمنة » مجرم مسيء وغادر، ويهيج عليه . ما إن رأى ” روزبة ” وسمع ما كان في بلاط السلطان، حتى انطلق إلى « دمنة » فوشى إليه وأعلمه بما حدث !

ذهب « دمنة » إلى مجلس القاضي في الغد، وهو عالم بما يُحاك له، فلما عاين التواء منطقه، قال له في غير مداراة: أراك أيها القاضي لم تتعود العدل في القضاء .. وليس من عدل الملوك دفع المظلومين ومن لا ذنب لهم إلى قاضٍ غير عادل . وقد رأيت أن العلماء لم يقولوا في حقي شيئاً !

جعل القاضي يخادعه، فتعلل بأن سكوت الجميع كان لاجتماعهم على أنه مجرم لا خير فيه، وجعل ينصح له أن يقر بذنبه فيخرج بعتقه من تبعة الآخرة . فإن العلماء قالت: « إن الموت فيما يجمل، خير من الحياة فيما يقبح » !

لم يلتقط « دمنة » هذا الطعم، وأجاب القاضي بأن القضاة لا تقضى بظنونها ولا بظنون العامة ولا الخاصة، وأنه من السفاهة والحمق أن يقر بذنب لم يرتكبه ويسلم نفسه للقتل وهو يعلم أنه برئ . واستأنف يقول للقاضي:

« إن كانت هذه منك نصيحة، فقد أخطأت موضعها . وإن كانت منك خديعة فإن أقبح الخداع ما فطن له . وليس الخداع ولا المكر من أخلاق صالح القضاة ! أما بلغك ما قاله العلماء » ؟!

سأله القاضي: وماذا قالوا ؟

قال « دمنة »، قالوا: « من ادعى علم ما لا يعلم وشهد بالغيب، أصابه ما أصاب

« البازيار » القاذف عند مولاه » !

سأله القاضى وقد ثار شوقه: وكيف كان ذلك ؟

انتظر دمنة لبرهة قبل أن يجيب .

ولذلك حديث آخر !

زر الذهاب إلى الأعلى