من تراب الطريق (1147)

من تراب الطريق (1147)

نشر بجريدة المال الخميس 29/7/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

الحمامة والثعلب ومالك الحزين !

« لا تنه عن شيءٍ وتأتى مثله » !

صادفني في كتاب « كليلة ودمنة » الذي كتبه بيدبا الفيلسوف الحكيم الهندي لدبشليم الملك، قصة عن الحمامة والثعلب ومالك الحزين، ظاهرها للتسلية وتزجية الفراغ، وباطنها حكمة لمن يعقل ويفهم..

كان دبشليم الملك قد جلس إلى الفيلسوف الحكيم يقول له إنه قد سمع ما ذكره له من أمر القضاء والقدر وغلبتهما على الأشياء، وطلب إليه أن يخبره عمن يطلب ضرّ غيره لما قد أصابه هو من الضر، دون أن يتخذ مما نزل به واعظًا يزجره عن ارتكاب المظالم والعدوان على غيره. فطال بهما الحديث، حتى طلب إليه الملك أن يضرب له مثلاً عمن يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه .

قال الفيلسوف: إن مثل ذلك مثل الحمامة والثعلب ومالك الحزين.

فقال الملك: وما مثلهم ؟

قال الفيلسوف الحكيم: زعموا أن حمامة كانت تفرخ على قمة نخلة طويلة تكاد تبلغ عنان السماء، وكانت تعانى تعبًا ومشقة من نقل ووضع مستلزمات عشها على رأس تلك النخلة، لطولها وارتفاعها، فإذا فرغت من النقل وتدبير أمر « العش » ـ باضت ثم حضنت بيضها حتى يفقس. فإذا فقس وخرجت الأفراخ، جاءها ثعلب لئيم، وهذا طبعه، كان قد تعاهد على ذلك منها، ويقدر ويحسب الوقت اللازم لنهوض أفراخها، فإذا حـل الميعاد الذي قدره، وقف بأسفل النخلة يصيح بالحمامة ويتوعدها أن يرقى ـ أي يصعد ـ إليها، فيتملكها الخوف والرعب من تهديده، فتلقى إليه بأفراخها لتتقي شره !

وبينما هي ذات يوم قد أدرك لها فرخان، إذ أقبل مالك الحزين فوقع على النخلة، فلما رأى الحمامة كئيبة حزينة شديـدة الهم، سألها: ما لي أراك كاسفة البال سيئة الحال ؟! فقالت له الحمامة: يا مالك الحزين، إن ثعلبًا دُهيت به، كلما كـان لي فرخان، جاءني (الثعلب) يهددني ويصيح في أسفل النخلة، فأقرق منه (أخاف وأرتعب) فألقى إليه بفرخىْ.. قال لها مالك الحزين ناصحًا: إذا أتاك الثعلب ليفعل ما تقولين، فقولي له: لن ألقى إليك فرخىْ، فارْق أنت إلىّ ( أي اصعد أنت )، وخذهما بنفسك، فإذا فعلت ذلك وأكلت فرخىْ ـ طرت عنك ونجوت بنفسي.

ألقى مالك الحزين بنصيحته الحكيمة، وعَلَّم الحمامة بفطنته هذه الحيلة، وانطلق راضياً فَحَطَّ رحاله على شاطئ أحد الأنهار، بينما كان الثعلب المكار قد اتخذ أهبته ـ كعادته ! ـ لالتهام أفراخ الحمامة، وذهب إليها واثق الخطو إلى أسفل النخلة، وجعل يناديها ويهددها كما كان يفعل في كل مرة، إلاّ أنه فوجئ بردٍّ جديد أدرك منه أن هناك من علمها هذه الحيلة، فطفق يستدرجها بلؤمه أن تخبره بمن علمها هذا ؟ فقالت له: علمني مالك الحزين.

انطلق الثعلب مغيظاً محنقاً يبحث عن مالك الحزين وقد اشتعل غضبه، وظل في بحثه حتى وجده واقفًا على شاطئ النهر، فبادره الثعلب قائلاً: يا مالك الحزين، ماذا أنت فاعل إذا أتتك الريح عن يمينك.. أين تجعل رأسك ؟ قال مالك: أجعله عن شمالي. قال الثعلب: فإذا أتتك عن شمالك.. أين تجعل رأسك ؟ قال مالك: أجعله عن يميني أو خلفي. فاستأنف الثعلب: فإذا أتتك من كل مكان ومن كل ناحية.. أين تجعل رأسك ؟ قال مالك أجعله من تحت جناحي. فقال له الثعلب مستدرجا إياه في خبثٍ لئيم: وكيف تستطيع أن تجعله تحت جناحك ؟ ما أرى ذلك يتهيأ لك !

كان أن التقط مالك الطُّعم، فصمم على ما أبداه للثعلب وقال إنه يستطيع ذلك، فقال له ملك اللؤم والخباثة: إذن فأرنى كيف تصنع. فلعمرى يا معشر الطير قد فضلكن الله علينا. إنكن تدرين في ساعة واحدة مثل ما ندريه في سنة، وتبلغن ما لا نبلغ، وتستطعن إدخال رؤوسكن تحت أجنحتكن من البرد والريح.. فهنيئا لكن، فأرنى كيف تصنع ذلك ؟

اشتعل حماس مالك الحزين بعد هذا الإطراء، فسارع بإدخال رأسه تحت جناحيه، ولكن قبل أن يخرجه كان الثعلب اللئيم قد وثب عليه وثبةً واحدة، وجثم عليه يكسر عظامه ويقول له وهو يلتهمه: يـا عدو نفسه، ترى الرأي للحمامة وتعلمها الحيلة لنفسها، وتعجز عن ذلك لنفسك حتى يتمكن منك عدوك !!

فكم من ناصحٍ لغيره، يعجز عن نصح نفسه، ولا يتعلم ما قاله الثعلب للأسد حين سأله: من علمك الحكمة. قـال: « رأس الذئب الطائر » !!

زر الذهاب إلى الأعلى