من تراب الطريق (1011).. الآدمي بين النضج والضمور ! (7)
بقلم : نقيب المحامين الأستاذ رجائي عطية
نشر بجريدة المال الأحد 3/1/2021
الجماعات المتحضرة في الماضي والحاضر ـ لا تقوي علي صيانة نفسها صيانة جادة من البلايا التي تصادفها .. لأن طريقها فيه من كثرة الأخلاط الملازمة لتكوينها ـ حديثًا وقديمًا ـ ما لا قبل لها بالنجاة منه دائمًا .. لكونها معرضة دائمًا للأخطار والمفاجآت .. ومن عجائبها سرعة النسيان لما مضي وما يمضي من المتاعب والمشقات والنوائب .. والتلهف علي مجيء ما تظنه وترجوه مما يمكنها من نسيان ما أشقاها ويساعدها علي الدخول إلي ما تتمناه في قابلها .. هذا المزيج من الأخلاط هو الذي أبقي ويبقي في كل جماعة في كل وقت، قلائل لا يفارقهم التشاؤم الذي يصاحبهم حتي نهاية العمر !
فالآدميون دائمًا متفقون مختلفون في ذات الوقت والمكان والموضوع والغاية .. بسبب ذات كل منهم التي ينفرد بها فيما يسميه قراره أو رأيه أو نظره أو ميله أو طبعه أو عادات الجماعة التي ينتمي إليها .. أحس بها وعْيه أو لم يحس !
وقد جمعت الغريزة الجنسية بين البشر والحيوان في القربي .. فلا تحكمها لدي البشر إلاّ الأديان والأخلاق والضمائر .. وهذه في أيامنا لا تكاد تبالي بها الحرية الفردية أو الجماعية لدي المتحضرين وغير المتحضرين . فغشي نوع طاغٍ مقيت من الإباحية وعدم المبالاة وبات يهدد تهديدًا خطيرًا ومزعجًا تماسك الأسر .. ولم يعد أكثر الناس يسهر علي قيمة التماسك أو يلتفت إلي خطر إهماله أو يهتم بتجنبه .. حتي في أهله وجيرته .. فقد امتدت هذه الحرية الحمقاء من المتعلم إلي غير المتعلم، ومن العالم المتعمق في العلوم والمعارف الوضعية إلي الجاهل والعامي السطحي، ففقد الآدميون اليوم قيمة تزيد علي ثلاثة أرباع ما يتعلمونه الآن في مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم ومعاملهم ومراصدهم .. وربما باتوا أقرب إلي الهلاك من آبائهم وأجدادهم. لأنهم لكثرة ما يظنون أنهم يعرفون ـ قد لا يراجعون ما ذكروه فأضاعوه برغم أن هذا حاصل لكل منهم في أغلب الأحوال .. فنحن الآن سكاري بما نظن أننا عرفناه وباشرناه وما سنعرفه ونباشره .. وهو وهم صرف .. لأنه التفات للتافه الجزئي الصغير الضئيل عن الأساس الجسيم المكين .. بفعل هذا الغرور قد التوت بنا الطريق واعوجت ومالت إلي العناية والافتخار بالقشور والأحلام والأوهام التي ساقتنا إلي المآسي والنكبات نتيجة ابتعاد الأساس إلي حد الضياع .. نسينا هذا الأساس في تعقبنا للتفاهات التي لا حد لها ولا آخر في إغراقنا في الهزل وإبعادنا عن الجد وإسراعنا لأول بادرة إلي الكآبة واليأس !!
وهذا التفات أَحْول من عموم البشر .. يصرفهم عن العناية الجادة بحياة كل منهم اليوم، ويغرق أغلبيتهم في الاستجابة لآلاف آلاف الأمور المغرية أو الأمور المؤذية العرضية التافهة .. هذه العوارض التي تدر مكاسب رهيبة من المال علي فئات ماكرة تقوم هنا وهناك بإتقان تجهيزها وعرضها نهاراً أو ليلاً بغير انقطاع في الدور أو المحال العامة أو الملاهي أو المعارض أو المكاتب أو الصحف أو النوادي أو المؤتمرات أو دور النشر أو الراديو أو شاشات التليفزيون الأرضية والفضائية .
هذا الالتفات الأَحْول العجيب الذي أصبح عامًا في زماننا .. قد شوَّه إلي حد غير مسبوق نظرة الآدمي إلي أعماق نفسه، وزيّف عليه رؤيته دون أن يتنبه إلي أهمية هذه الأعماق .. فنسي بصورة تكاد تكون تامة اختلاف مراتب إدراكه لوجود تلك الأعماق من حيث الأهمية والتأثير في حياة كل منا كآدمي عاقل مدرك يقظ يشعر أنه إنسان يعايش أناسي أمثاله .. ليس فقط عند الحاجة في لحظة الاحتياج أو الرغبـة أو الشهـوة أو الخـوف أو الفزع، بل ينمي لديـه في الدرجة الأولي ـ الشعور بمسئوليته التي لا يجوز أن يهملها أو يتصور إهمالها عن نجاح حياته كإنسان حي عاقل راشد .. ملتزم بجادة طريق واضح جلي ومستقيم، ينتهجه في رحلة حياته من بدايتها بما يحمله من ماضيه المتواضع إلي نهايتها بما يأمل تسطيره في صفحتها قبل أن يفارقها بكل ما انتهي إليه !