من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة (9)

من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة (9)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 7/6/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

بدأت مصر بصدور دستور 1923، بدأت تسير في موكب الدول الحرة، وتباهى بدستورها الديمقراطي، وكان هذا مقدمة لها ما بعدها، وحين نتذكر هذا ينبغي أن نحنى الرءوس إجلالاً لهذه القامة العظيمة الفذة، فقد كان عبد العزيز فهمى من أبرز الرجال الذين وضعوا ذلك الدستور: ترى ذلك واضحًا فيما تقدم وضع الدستور من بحوث ومناقشات , وتقرؤه في محاضر لجنة الثلاثين الأصلية، ولحنة الثمانية عشر الفرعية , وهو قبل هذا كان قد وضع أول مشروع للدستور وضعه بتكليف من الوفد، يوم كانوا في باريس للتواصل مع مؤتمر الصلح، ونحن مدينون لهذا الرجل العظيم بأكثر مما حواه دستور 1923 من المبادئ الديمقراطية السامية، فقد كان في كلتا اللجنتين من أكبر المدافعين عن الحريات العامة وعن سلطات الأمة: دافع عن حرية الرأي، وعن حرية الصحافة، وعن حرية الاجتماع، وعن حرية التعليم، وعن جعل الأمة وحدها مصدرًا لجميع السلطات، واستخلص النتائج التي تترتب على هذا المبدأ الديمقراطي الجليـل، كـان للأمـة من ذلك « نظام دستوري كأحدث الأنظمة الدستورية في العالم وأرقاها، تعيش في ظله عيشًا سعيدًا مرضيًّا، وتتمكن به من السير في طريق الحياة الحرة المطلقة، وإذا كان الدستور قد بدأ ثوبًا فضفاضًا، فإنه ما لبث أن استوى هندامه واعتدلت قسماته، وتألف مع الجسم الذي يكسوه، وقد بقى الفقيد من ورائه يدفع عنه الأذى ويذود عنه العدوان ويدعوه بدستور الأمة حتى لُقّب بحق « أبا الدستور ».

أقر له العلامة عبد الرزاق السنهوري بذلك كله، وبالريادة والفضل الكبير في المحاماة.. فقد كان في المحاماة من أبرز المحامين شأنًا، وأعلاهم كعبًا وأضخمهم اسمًا، وأبعدهم صيتًا وشهرة. وكان نقيبًا للمحامين مدة طويلة. فساهم في نهضة المحاماة، وحمل أعباء هذه المهنة السامية فوق كتفيه القويتين، وكانت المحاماة إذ ذاك في فجر نهضتها، فسار بها شوطًا بعيدًا في طريق التقدم، ورفع مكانتها وجعل لها صوتًـا مسموعًا. وبقى حتى بعد أن ترك هذه المهنة الكريمة يجلها ويحن إليها. فتراه بعد أن تولى القضاء وفي احتفالية المحاكم الأهلية يقول مقارنًا « ولئن كان على القضاة مشقة في البحث للمقارنة والمفاضلة والترجيح، فإن على المحامين مشقة كبرى في البحث للإبداع والإبداء والتأسيس.. إن عناء المحامي ـ ولا ينبئك مثل خبير ـ أشد في أحوال كثيرة من عناء القاضي لأن المبدع غير المرجح »، ثم يقول في الاحتفال بالعيد الخمسيني للقضاء الوطني بعد أن عد الأفذاذ من رجال المحاماة الأقدمين: « إن المحاماة بفضل أولئك الأفذاذ وأمثالهم قد سايرت القضاء، ودرجت مدارجه في الرقى، وفيها الآن عديد من الأساتذة العظام الذين هم ذخر وفخر للبلاد، وإن القضاء كثيرًا ما لجأ إلى ناديهم لسد ما بصفوفه من الفراغ، ولولا ما نهى عنه من تزكية المرء نفسه لاعتززت في موقفي هذا، بأنى ابن المحاماة وربيب بيئتها ».

كانت نجوميته في المحاماة، ثمرة مواهبه العظيمة، ومعارفه الموسوعية، وقوته التي لا تدانيها قوة في الحق، وفي الدفاع عنه. وقف كالطود الشامخ ليدفع عن شهيد الوطنية محمد فريد، غائلة تربص وتآمر سلطات الاحتلال وأذنابها عليه، لإجهاض الحركة الوطنية، حتى إذا ما ألقى كلمته في المؤتمر الوطني في مارس 1912، وحث فيها على الجهاد ضد الاحتلال، والمطالبة بدستور للبلاد، وجدتها السلطات فرصة للانقضاض عليه، فاستدعى سريعًا إلى دار النيابة العمومية، فانتفض عبد العزيز فهمى على رأس كبار المحامين للحضور معه، ودحض الادعاء الكاذب بأنه يحرض على كراهية الحكومة، وإذ فاحت المقاصد الملتوية حين تأففت السلطات من الموقف المنصف الذي اتخذه رئيس النيابة الأستاذ على بك ماهر، ورفضه إصدار أمر بالقبض عليه وحبسه، فأمعنت السلطات في موقفها المتعسف ونقلت التحقيق من أمام على بك ماهر، وعهدت به إلى على بك توفيق على أمل أن يكون ألين في الاستجابة لطلب حبس محمد فريد، الذي حثه أعلام الحركة الوطنية على سرعة السفر فورًا للخارج ليستأنف دوره من هناك حتى لا يسكت صوت الحركة الوطنية.

وبينما كان محمد بك فريد على متن سفينة تمخر به عباب البحر الأبيـض المتوسط، انعقدت محكمة جنايات مصر برئاسة المستر دلبر وجلى ـ وهو ذات رئيس المحكمة التي حاكمته وحبسته على ديوان « وطنيتي » للأستاذ على الغاياتي، لمجرد أنه كتب مقدمة له، ومن ثم تجلى ما تدبره السلطات في المحاكمة الجديدة، فانطلق فارسا المحاماة: عبد العزيز فهمى، ومحمود أبو النصر ـ للدفاع عن شهيد الوطنية…. في مرافعة الأستاذ الكبير عبد العزيز فهمي، تتجلى البصيرة النافذة، والشجاعة الراسخة، والمقدرة المتمكنة على المعالجة.. أخطر ما فجره عبد العزيز فهمى، أنه فضح مرام ومآرب الحكومة، وكشف النقاب عن الاعتساف المدبر للنيل من محمد بك فريد. بتمكن رائع وحجة دامغة.. وإذ هو يبنى دفاعه على حق النقد المباح، فقد طفق يعرض في حضور الصحافة المتابعة ـ مقالات وخطب سابقة لمحمد بك فريد كال فيها انتقادات للحكومة وسلطات الاحتلال أشد وأثقل مما تناوله في الخطبة موضوع المحاكمة.. وكما توقع، لم تطق المحكمة صبرًا على قراءته مقتطفات مما أتى به من الخطب والمقالات السابقة الأشد ثقلاً ووطأة، في نقد الحكومة والسلطات، وحدث ما توقعه، إذ سارع رئيس الجلسة لإيقافه قائلاً: إن هذا معلوم. وهذا الإقرار هو ما أراده عبد العزيز فهمي.

انتهز عبد العزيز فهمى، أحد أعظم نجباء الحقوق والمحاماة، تسليم المحكمة ثم تسليم النيابة العامة بما سلمت به المحكمة، ففجر قنبلته الثانيـة، معريًا التغاضي سلفًا عما هو أشد في النقد، ثم افتعال المحاكمة على أخف الأقوال، مما يكشف التربص العمدي !

ثم يقف فارس المحاماة طارقًا الحديد وهو ساخن، فيبدأ في تلاوة فقرات من مناقشات وأقوال أعضاء الجمعية العامة ومجلس الشورى وفيهـا من شديد النقد ما لم تتضمنه خطبة محمد فريد، ليثبت أنه من قبيل النقد المباح، على نفس الوتر تابع عبد العزيز فهمى، فاضطر رئيس المحكمة الإنجليزي إلى الإقرار بأن هذا النقد معلوم، بيد أن المحامي الأريب لم يسكت إلاَّ بعد أن قرأ ما في المحاضر من اتهامات غليظة للحكومة بالتبذير والمداراة بأرقام وهمية في الميزانية العامة، ليعقب بمقارنة قبول السلطات في أوروبا لرمى الحكومة بالخيانة والمؤامرة، بينما تغالى السلطات وتصطنع الأسباب، لتجريم عبارات لمحمـد بك فريد لا تعدو النقـد المباح الذي لا تجريح فيه.

كان ما أبداه عبد العزيز فهمى على مسامع الجمهور والصحافة رسالة شديدة فضحت أساليب السلطات في ضرب الحركة الوطنية وأعلامها، وأنارت السبيل للأمة لترى ما يدبر لها، وتنهض بما عليها تحقيقًا لآمالها ونيلاً لحقوقها !

زر الذهاب إلى الأعلى