من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة (3)

من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة (3)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 26/4/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

وكأن الأيام كانت قد تعده لما ينتظره من قمم عديدة تبوأها بموسوعية في ذُرَا عديدة . اشتغل وهو بالسنة الثانية بمدرسة الحقوق مترجمًا بوزارة الأشغال، ثم عمل عقب تخرجه معاونًا للإدارة بالدقهلية بمرتب 12 جنيهًا، ولكنه سرعان ما طلب نقله إثر المشكلات التي شجرت بينه وبين رئيسه في العمل، والذي نَفَسَ عليه ميل بعض أعيان المنطقة إليه لحسن خلقه واستقامة سلوكه، وانتقل عبد العزيز فهمى كاتبًا في محكمة طنطا التي كان قد حصل فيها على الشهادة الثانوية، ثم ترقى في المناصب إلى أن عمل بنيابة بنى سويف، ليلتقي هناك بصديق عمره منذ أيام الدراسة؛ أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، ليتلازما ولا يفترقان، يجد كل منهما في الآخر مرفأه الذي يرسو إليه، ولذلك تراهما وقد اتبعا نهجًا واحدًا في كل القضايا الوطنية ـ في سنة 1903 استقال عبد العزيز فهمى من النيابة، وافتتح مكتبًا للمحاماة، سرعان ما انضم إليه صديقه أحمد لطفي السيد الذي استعفي عام 1906 من رئاسة النيابة وزامل فهمى في مكتبه .

يوم أعطى المحاماة حقها في احتفالية المحاكم الأهلية وإنشاء محكمة النقض، وهو أول من تولى رئاستها، لم يترك هذا الموسوعي العريض، هذا التكريم للمحاماة مجدولاً بتكريم القضاء، إلاَّ وركَّزَ على أواصر العلاقة والتعاون الذي ينبغي أن يكون بينهما، فيقول « هذا يا إخواني المحامين نظرنا إليكم، ورجاؤنا فيكم أن تكونوا دائما عند حسن الظن بكم، وإن تقديرنا لمجهوداتكم الشاقة جعلنا جميعـاً، نحـن القضاة، نأخذ على أنفسنا أن نيسر عليكـم سبيل السير في عملكم، وإن أيـة فرصة تمكننا مـن تيسير السير عليكـم لا نتركها إلاَّ انتهزناها في حدود القانون ومصلحة المتقاضين . ذلك بأن هذا التيسير عليكم تيسير على القضاة أيضا، إذ القاضي قد تشغله الفكرة القانونية فيبيت لها ليالي موخوزا مؤرقا مثل شوك القتاد، يتمنى لو يجد من يعينه على حل مُشْكلهـا، وإن له لخير معين في المحامي المكمل الذي لا يخلط بين واجب مهنته الشريفـة وبين نزوات الهوى ونزعاته ولا يشوب عمله بما ليس من شأنه ــــ إذا كان هذا ظننا بكم ورجاءنا فيكم فأرجو أن تكونوا دائما عند حسن الظن بكم، وتقدّروا تلك المسئولية التي عليكم، كما يقدر القضاة مسئوليتهم !.. نحن إذن نفتخر بالمحامين وبالنيابة وبالقضاة جميعًا » !

هذه الكلمات العميقة المضيئة ظلت تعبر دهورا عن العلاقة المتينة القائمة على الاحترام والتقدير المتبادل لأضلاع المثلث الذهبي في أداء كلٍ لدوره الواجب في محراب العدالة .. هذه العدالة التي أنيطت برسل القضاء الذين في كنفهم وكنف عدلهم وسعة صدرهم وعقلهم تسعى النيابة وتسعى المحاماة .. وفي رحابهم ترجو العدالة أن يأتي الانتصار لها بكلمة الحق التي بها تنطق ألسنة القضاة ومهجهم وضمائرهم ! لقد كان عبد العزيز فهمى تعبيرًا حيًا نابضًا صادقًا عن جيله في عصر جميل مضى، فهل نتقدم إليه ؟!

كان عبد العزيز فهمى هو راعى الاحتفالية، وراعى تدوينها في الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية، والمطبوع بمجلديه الكبيرين سنة 1937، ولا يملك المطالع لذلك الكتاب الذهبي، إلاَّ أن ينبهر معجبًا بهذا العمل العظيم اللافت، بدءًا بالطباعة الفاخرة على الورق المصقول الفاخر، وفنون الخط العربي البديعة، وانتهاءً بكل ما حواه وحفظه للأجيال بتسجيله المميز الدقيق والمشفوع بالصور النفيسة لصفحات وأعلام القضاء المصري في ذلك الزمان .. هؤلاء الذين تسلموا الأمانة في زمن مثخن بآفات كثيرة ليضعوا لبنات أساس عريض ويثابروا في جد وإخلاص على استكمال البناء ليسلموا للأجيال التالية راية للقضاء جديرة به وبمصر في تطلعها إلى مستقبل مزهر .. فلا يكاد المطالع للكتاب يمضى مع آيات عديدة جديرة فيه بالإعجاب، حتى يلفته بقوة ما كانت عليه العلاقة القائمة على التقدير المتبادل البالغ بين القضاء وبين المحاماة .. كلاهما متجاوران سـواء في الاحتفال بافتتاح محكمة استئناف أسيوط في 10/3/1926 الذي خطب فيه من رجال المحاماة حضرة صاحب العزة الأستاذ إبراهيم الهلباوى المحامي الكبير وحضرة الأستاذ ناشـد حنا نقيب محامي أسيوط وحضره المحامون مع القضاة، أم في الاحتفال بإنشاء محكمـة النقض في 5/11/1931 والذي فيه أطـرى قاضى القضاة عبد العزيز باشا فهمى المحاماة إطراء العارف المقدر الحفيظ على هذه الصلة القائمة على التقدير المتبادل .. ثم لا يكاد يفرغ المتأمل من الالتفات إلى هذه الملحوظة ــــ حتى يدرك أن الأمر لم ينحصر في مجاملات أو تشارك في احتفالات، وإنمـا صارا فيه ــــ القضاء والمحاماة ــــ شريكين قسيمين في تدبيج الكتاب الذهبي نفسه، فيكتب ــــ إلى جوار القضاة ــــ صاحب العزة عزيز خانكى بك المحامي عن التشريع والقضاء قبل وبعد إنشاء المحاكم الأهلية، مثلما يكتب عن المحاماة قبل إنشاء المحاكم الأهلية، ويكتب عنها بعد إنشائها صاحب العزة توفيق دوس باشا المحامي، ثم يكتب صاحب العزة إبراهيم الهلباوي المحامي عن أعلام القضاء الأستاذ الإمام محمد عبده الذي أمضى في القضاء سبع سنوات حتى عين مفتيا للديار المصرية، وعن الأستاذين القاضيين الكبيرين حسن باشا عاصم وقاسم أمين صاحب « تحرير المرأة » و« المرأة الجديد »، وكما يكتب صاحب العزة مصطفي بك محمد عن المجالس الحسبية وصاحب السعادة أمين أنيس باشـا عن محكمة النقض والإبرام، وصاحب العزة كامل مرسى بك ( باشا فيما بعد ) عميد كلية الحقوق عن الكلية، وصاحب العزة صليب سامى بك ( باشا فيما بعد ) عن إدارة قضايا الحكومة التي يرأسها ــــ نرى الأستاذ زكى عريبي المحامي يكتب عن لغة الأحكام إلى جوار كتابته عن لغة المرافعات .. هذا التجاور يحس القارئ بمنابعه ورسوخه حين يرى كثيرين من رجال القانون قد تقلبوا ذهابا وإيابا بين القضاء والمحاماة كسعد زغلول ومحمد لبيب عطيه وحامد فهمى وسيد مصطفي وسليمان حافظ وأحمد نشأت ومصطفي مرعى وغيرهم، وحين يرى أن منصب وزير العـدل أو الحقانية لـم يكـن مقصورًا على رجـال القضاء، فشغله محامون قضاة وقضاة محامون قبل أن يعين الرئيس جمال عبد الناصر المحامي فتحي الشرقاوي وزيرا للعدل .. لم يكن ذلك التعانق رضوخا أو استجابة لنص، وإنما صدى لاقتناع عميق متغلغل في نسيج رجال ذلك الزمان الذين آمنوا بأن رسالة العدالة تضم الجميع في حناياها بتآخٍ وتقدير متبادل .

زر الذهاب إلى الأعلى