من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة (2)
من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة (2)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 19/4/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
لم يكن العلامة السنهوري يطرى عبد العزيز باشا فهمى حينما قال في تأبينه بمجمع الخالدين إنه كان يمثل جيلاً بأكمله، وإنما كان يصفه بما هو فيه وعليه من مناقب وعلم موسوعي، ومن تنوّع ما اضطلع به في حياته مبحرًا يرسو على القمة في كل ما خاضه أو اختير له، هذا الاتساع الذي جعل عبد العزيز فهمى ممثلاً لجيل بأكمله، مردود إلى تعددية وموسوعية في نسيجـه بوأته الصدارة في كل ما تولاه أو اضطلع به، تقلب في حياته بين المحاماة فعرفته محاميًا جليلاً وثانيًا للنقباء العظام في زمن العلم والجلال والوقار، وبين القضاء فصار أول رئيس لمحكمة النقض لدى إنشائها عام 1931، وبين السياسة والوطنية فرأته مصر أحد زعماء ثلاثة يقابلون المعتمد البريطاني يطالبون باستقلال مصر ويفجرون ثورة 1919، وفي الـوزارة والسلطة التشريعية ومجمع الخالدين، فعرفته مصر والعالم مناضلاً لإلغاء الامتيازات الأجنبية، وعضوًا بارزًا في لجنة وضع الدستور، وقاضيًا عظيمًا لم يجاره أحد في صياغته الرائعة للأحكام والمبادئ، ونصيراً للحرية فقدم استقالته كوزير للحقانية انتصارًا لحق على عبد الرازق في التعبير عما يراه في كتابه الإسلام وأصول الحكم، ومساهمًا لافتًا في مجمع اللغـة العربية لا يثنيه شيء عـن إبداء ما يراه كفيلاً بالتحديث أو التجديد مهمـا اختلف معه الناس !
هذه التعددية مع توحد الشخصية، ومع الثقافة العريضة، والأفق الأعرض، هي التي تحدث بها عبد العزيز فهمي يوم افتتاح أعمال محكمة النقض في نوفمبر 1931، فجمع فيهـا جمع العارف المقدر لكل من المحاماة والنيابة والقضاء، في عمق فكر واتساع أفق لا انحياز فيه، حتى استطاع وهو يتبوأ موقع قاضى القضاة، ويترأس أول رئاسة لمحكمة النقض أن يطرى المحاماة بأكثر مما أطراها به أعظم المحامين، ويبدأ كلمته بدرس للقضاة لا يتصدى لإلقائه إلاَّ مثل هذا الأب الموسوعي الكبير.. لا يستنكف من الإشـارة إلى أن الخطـأ في القضاء وارد، لا يعز عليه بشر، فيقول للسامعين من كبار رجال القضاء..
« هذه المحكمة التي أنشئت لتلافي الأخطاء القانونية في الأحكام النهائية، كان وجودها أمرا ضروريا جدا، فإنه لا يوجد أي قاض يستطيع أن يدعى لنفسه العصمة من الخطأ، ولقد حاول الشارع المصري أن يتلافى بعض ما قد كان يقع من الخطأ في المسائل القانونية فأنشأ نظام الدوائر المجتمعة، ولكنه كما تعلمون حضراتكـم، كان قاصرًا جـدًا، لا يتعرض للأحكـام النهائية بشيء، ولا يمسهـا أدنى مساس، بل كان مقصورًا على ناحية من نواحي التقويم والإرشاد في المبادئ القانونية دون أن يصلح من الأحكام ذاتها، وقد سارت محكمة استئناف مصر الأهلية زمنًا طويلاً على هذا النظام، حتى أنشئت محكمة استئناف أسيوط فأصبح غير وافٍ بالغرض وأصبح من الضرورات القصوى إيجاد نظام النقض والإبرام الذي هو وحده الكفيل بتحري أوجه الصواب فيما يتعلق بالأحكام النهائية وإصلاح الخطـأ فيهـا، لأنه يؤثر في تلك الأحكام ويبين ما بها من الأغلاط القانونية، ويدعو إلى إعادة الإجراءات في القضايا الصادرة فيها، فنحن مغتبطون بهذا النظام، ونحمـد الله تعالـى على أنه أُنشئ الآن !.»
ثم لا ينسى هذا الموسوعي العريض، وهو يبدى فخره بعظماء القضاء، أن يقرن قوله بالتأكيد على عظمة المحاماة وإجلاله واحترامه العميق للمحامين، فيقول: « وإن سروري يا حضرات القضاة وافتخاري بكم ليس يعدله إلا إعجابي وافتخاري بحضرات إخواني المحامين الذين أعتبرهم كما تعتبرونهم أنتم عماد القضاء وسناده. أليس عملهم هو غذاء القضاء الذي يحييه؟ ولئن كان على القضاة مشقة في البحث للمقارنة والمفاضلة والترجيح؛ فإن على المحامين مشقة كبرى في البحث للإبداع والتأسيس، وليت شعرى أية المشقتين أبلغ عناءً وأشد نصبًا ؟ لا شك أن عناء المحامين في عملهم عناء بالغ جدًّا لا يقل البتة عن عناء القضـاة في عملهم. بل اسمحوا لي أن أقول إن عناء المحامي ـ ولا ينبئك مثل خبير ـ أشد في أحوال كثيرة من عناء القاضي، لأن المبدع غير المرجح » !.
هذا حديث قاضٍ نزيه لا ينطق إلاَّ عدلاً، وحديث خبير بالمحاماة عركها وخَبَرها، فقد كانت المحاماة هي القاسم المشترك في حياته، لا يكاد يتركها لمنصب لا يجوز الجمع بينه وبين المحاماة، إلاَّ ليعود إليها فور ترك المنصب، وكثيرًا ما تركه احترامًا لنفسه وللمبادئ التي ظل طوال حياته يقدسها ولا يحيد عنها.
سيرة عبد العزيز باشا فهمي، تشهد بموسوعيته من ناحية، وتشهد بعشقه الدائم للمحاماة، لا يصبر على الابتعاد عنها.
قيض لي أن أسمع عن عبد العزيز باشا فهمى وأحبه منذ الصبا دون أن أراه، فقد كان أبى رحمه الله من محبيه، وشاركه العمل مع نخبة من أعلام المنوفية في إنشاء جمعية المساعي المشكورة التي كان لها ـ ولا يزال ـ فضل اتساع التعليم وتقلص الأمية في المنوفية، وكنت وإخوتي وأخواتي من المترددين الدائمين على عيادة شقيقه الدكتور عبد الحميد فهمى طبيب العيون، وكان بيتنا على بعد خطوات من الفيلا التي يقطن فيها وبجانب السكن عيادته، أيام كان العلاج مخيفًا لنا، سواء بحقن البطن، أو بالششم الذي يغلق العيون كالأسمنت، ولا يرفع عنها في الصباح إلاَّ بمعركة يستعمل فيها الماء الدافئ برفق وحنكة، نذهب إلى عيادته مشفقين خائفين، ونعود منها مطمئنين. وكيف لا نطمئن إليه وهو شقيق عبد العزيز فهمى معشوق أبى. كان عبد العزيز باشا يسبق أبى في الميلاد بثلاثين عامًا، لم تمنع من تقاربهما في حزب الوفد في البدايات، وفي جمعية المساعي المشكورة، وفي المحاماة.
ولد عبد العزيز فهمى في ديسمبر 1870 في قرية « كفر المصيلحة » القريبة جدًا من شبين الكوم، وقد أدى الامتداد العمراني أخيرًا إلى دخولها في حيزها. وتوفي رحمه الله عام 1951. وبين ميلاده ووفاته ملأ الدنيا وشغل الناس. حفظ القرآن الكريم في بلدته، ثم أرسله أبوه إلى جامع السيد البدوي بطنطا ليتعلم التجويد، ومن الجامع الأحمدي بطنطا إلى الأزهر الشريف بالقاهرة، حيث تعلم على أيدي مشايخه، ثم انتقل إلى التعليم المدني، فنال الابتدائية، ثم الثانوية، قبل أن يلتحق بكلية الحقوق أيام كان مسماها مدرسة الحقوق السلطانية، وحصل على الليسانس سنة 1890.
كان لا بد من هذا التعريف الموجز، لنبدأ رحلتنا مع عبد العزيز باشا فهمي، صاحب القمم المتعددة، في المحاماة، وفي القضاء، وفي الوطنية.. والحديث في ذلك يطول.