ملكة الوعي والالتفات وسط زخم الحياة (7)

من تراب الطريق (984)

ملكة الوعي والالتفات وسط زخم الحياة (7)

نشر بجريدة المال الأربعاء 25/11/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

نسيان الآدمي لوقتية وجوده في هذه الدنيا ـ صفة عامة في الأحياء، لكن قليلين من البشر يتيقظون لتلك الوقتية من آن لآخر، لكنهم هم أيضًا لا تطيب حياتهم إلا بهذا النسيان الذي يغطى تلك اليقظة المتكررة !

وهذه الوقتية لوجود الأحياء في دنيانا ـ ضرورية لاستمرار وجود الحياة البشرية الأمد المكتوب لها نتيجة توالى وجود وزوال الأحياء على النحو المختلط المعرض للتشويه والتشرد الذي نعانيه حتى اليوم ولا نتوقع غيره في الغد القريب.. هذا التوالي بين الوجود والزوال الذي يخشاه معظمنا الآن مما يتحمله فعلاً.. لأنه في نظره مستقبل عابس جدًّا.. يحاول تناسيه بإكثار الكلام والإسراع في تغيير القرار وزيادة التجوال في الطرقات والتكدس في الملاعب وأماكن اللهو أو في مجتمعات ونوادي الغاضبين الساخطين بلا جدوى سوى إطلاق المخزون في الصدور من الغضب والسخط.. ولعل ذلك يكون عارضًا برغم شدته من نوع ما سبق ومضى من العوارض التي مرت وانقضت !

ونسيان الآدمي نتيجة حرصه البالغ على وجوده حيًّا ينسيه تمامًا أجله المحتوم، ويؤازر هذا النسيان تلك الحياة التي تملأ كيانه بالشعور بوجودها وحركاتها التي لا تنقطع يقظةً أو نومًا، وقدرتها التي لا تكف عن التزايد والتناقص في الحيوية والوجودية قبل أن تنطفئ نهائيًا.. فالحياة التي يتمسك كل منا بها ويعرفها قبل كل شيء آخر ـ قسيمة العدم وضده في نظر كل حي على هذه الأرض !!

وقد يشاء الله تعالى أن يمكن للبشرية التي نعايشها ونعرفها ـ الامتداد الكافي في الفضاء العظيم للإفادة من خيراته.. لتتسع مساحات حياتنا وتمتد الأعمار وتهدأ النفوس وتتغلب العقول على الأهواء، وينسى البشر ماضيهم العكر الدائم القلق والشكوك والأخطاء والأخطار والخلافات والمعارك والنوازل والنكبات.. هذا الماضي الذي عانيناه على هذه الأرض التي شهدت ما لا حصر له من المآسي والنكبات التي من صنع حماقاتنا !! .

في السنوات الأخيرة تكاثرت محطات الإذاعات الفضائية عددًا وتوزيعًا وزاحمت المحطات الأرضية المماثلة لأنها أوسع نطاقًا منها بكثير، واجتذبت بذلك التفات الكثير من العاديين إليها من كل بلد.. وتعقبوا ويتعقبون ما تذيعه.. خاصة ما يفيض منها مما تلهو به النفوس ويجتذب الشباب في أكثر ساعات الليل.. وهذه المحطات يتولاها أصحابها من الأرض وإليها.. لا شأن لها ولهم من قريب أو بعيد ـ بالاتصال الهائل الذي بدأت خطواته وطفقت تتسع بيننا وبين الفضاء العظيم .

ونحن الآن نحاول أن نتجاوز غاية ما كسبناه وغاية ما بددناه وهو الأعم ـ على هذه الأرض.. في الماضي المعروف لنا ـ فضلاً عن مئات الألوف من السنين السابقة التي لم نعلم عنها حتى الآن إلاّ التافه من القشور . هذا الماضي الذي لا تكاد تربطنا به رابطة الآن، ونرنو للانتقال منه ومن الحاضر إلى مستقبل جديد كل الجدة لم يسبق له من قبل مثيل.. لا في الماضي ولا في الحاضر.. مستقبل نعتاد فيه على الانتشار المطرد في الفضاء كما اعتدنا على الانتشار المستمر في الأرض، ولكن بعيدًا عن حماقاتنا الحالية والماضية التي لا أول لها ولا آخر والتي إن استمرت سعتها وحدتها ستودى بالجميـع إلى الهلاك بغير استثناء !

قد يمكن للبشرية حينئذ أن تمسك بحبل أكثر متانة بالعقل، وأن تغالب ما درجت عليه من حماقات لآلاف السنين، جلبت عليها المآسي والحروب، وأطارت هباءً أرواح الملايين الذين انقصفت أعمارهم بفعل القتل والدمار، والتناحر على السبق إلى المكاسب والمنافع حتى بدت لنا الأرض وقد ضاقت علينا بما رحبت، تائهين دون أن ندرى عن خيرات بلا حدود يحفل بها هذا الكون العظيم !

يجب ألا ننسى أن تاريخنا القديم جدًّا المعروف لنا.. يبدأ لأكثر من أربعة آلاف عام سابقة على يومنا هذا.. برغم أن وجود الآدميين كانت بدايته منذ ما يزيد على ذلك بكثير جدًّا.. فتاريخنا الذي نسميه القديم لم نبدأه نحن إلاّ في أواخر أواخر ذلك الوجود الأولى الآدمي السحيق.. وقد سبقه وجود أجناس من الحيوان والنبات على مدى ملايين مضت من السنين.. وقد انقرض هذا كله ولم يعثر على آثاره إلاّ القليل الذي صادفه بعض الباحثين هنا وهناك في هذا القرن والقرن الذي سبقه.. فحضاراتنا كلها ليست قديمة كما كنا نعتقد إلى بداية القرن التاسع عشر، ولم تفطن هذه الحضارات بنواتجها وقيمها وامتزاج عقولها بحماقاتها ـ إلاّ في نهاية ذلك الماضي الجديد.. فهي نقلة جديدة جدا للآدمي القديم.. لم تنته بعد لأنها لم تستكمل بداياتها.. ومن حق الآدمي العاقل اليوم والغد أن يأمل في مستقبل للبشر ـ أكثر رشدًا وأعمق فهمًا وأقوى إرادةً وأبعد رؤية وفطنة إلى اتصال أكيد دائم متزايد متبادل بين أهل الأرض وبين الفضاء العظيم.. اتصال يصير أساسًا من الأسس الفعالة في حياة البشر الحاضرة والمستقبلة.. يزداد قوةً واتساعًا بغير انقطاع أو ركود.. ويلطف بالنمو الدائم المتزايد لذلك الاتصال المتبادل ـ ما تعانيه اليوم غالبية البشر من سحب اليأس وقسوة الحياة التي يعيشونها.. ويرجو هذا اليوم كل عاقل متئد لا يثق كثيرًا في الحماسة والمتحمسين، ويتمنى أن تختفي من كل الجماعات أو تضعف وتذوى عما هي عليه ـ الخفة والسطحية والطمع والغرور، وألا ينسى كل آدمي.. ملكًا كان أو عبدًا.. أنه يبدأ الحياة ويدخلها بلا صنع أبويه اللذين لا فضل لأيهما في تكوينه، ويخرج منها لأنه حتمًا يستحيل أن يبقى فيها بأية حيلة أو وسيلة بعد المدة المقدرة لحياته.. مهما طالت في نظره ومن حوله.. إذ الحياة وقتية ذات طرفين لا غنى عنهما قط !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى