مقاطعة الدين ومجافاة الأخلاق والقيم !! (3)
من تراب الطريق (1030)
مقاطعة الدين ومجافاة الأخلاق والقيم !! (3)
نشر بجريدة المال الاثنين 1/2/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
كل جيل من أجيال المشتغلين بالعلوم الوضعية للظواهر الطبيعية كان همه محاولة التفوق في اكتشاف الجديد ـ على سابقه ـ إما بالتخطئة والتصحيح، وإما بزعم النقص وضرورة تكملته بالإضافة والاتساع.. يدفع ذلك طمعٌ غير خاف ولا منكور ـ في الاشتهار والمنفعة لدى جمهور معاصريه !
وقد تكاثرت المكتبات وامتلأت بمؤلفات تلك العلوم ومعارفها وما اتصل بها وبنى عليها من نشرات ومعلومات انتفعت بها في حينها ـ الصناعة والزراعة والتجارة، مثلما ينتفع بها ما يقوى الأداء في الحروب أو ما يرجى نفعه للكل في السلام.. وبلغت تلك المكتبات الآن أحجامًا عملاقة لم يعرف لها مثيل من قبل.. تحتوي على جديدها وقديمها وحاضرها وسابقها.. كل ذلك دون التفات جاد إلى حاجة الآدمي الدائمة ـ عالما وجاهلاً ـ إلى الإخلاص والأمانة ـ ظاهرًا وباطنًا ـ في حياته بأسرها.. ومن ثمّ فقد زخرت المكتبات بآلاف الآلاف من المؤلفات لتلك العلوم وتوابعها من نشرات وتطبيقات عملية للصناعة والزراعة والأمن والأمان والتقدم والتطور، وامتلأت هذه المطبوعات بالنقول والفروض والنظريات والقوانين والرموز والأرقام توكيدًا للتجارب والتكوينات والنتائج والتصحيحات المدعاة لكي يستخدمها هذا الجيل أو ذاك في عصره.
فـلا عجب ألا تجد تلك المعـارف الوضعية مكانًا ثابتاً في داخل البشر، برغم أنها عطلت بعض أو معظم استعدادات الآدمي الذي ولد بها وتركته فيما يشبه التخدير أو الحيرة أو هما معًا.. أو لم تزوده بشيء بديل حقيقي تستقر إليه نفسه خلال حياته لدى عمره !!
وقد يفسر هذا إلى حد ما كثرة وسرعة تغير العادات والاختيارات والأذواق والمشارب والرغبات في كل الجماعات البشرية لدى الأجيال الحاضرة على مختلف أعمارها.. وهذا التغير العاجل المستمر هو في واقعه ظواهر وأعراض تعلق مستحكم.. هذا التعلق المستحكم الذي طرد معالم الاطمئنان والاستقرار والثقة من نفوس الناس جميعًا.. ولم تقو على تغطيته أخبار الرحلات الفضائية ونواتجها وما اكتشف من استعمالات الليزر في العلاج والصناعة وتوقيع المعاهدات والاتفاقات لضمان الأمـن والسلامة في عالمنا الهائج المائج الذي لا يكف عن الاشتباك !
وقليلاً الآن ما تلتفت غالبية البشر إلى عمق الحكمة والدقة في تكوين وتركيب استعدادات الآدمي قبل أن يولد وإلى أن يفارق الحياة.. ولو تأملنا في هذه النعمة وفي وجودها الذي كاد الآن أن يتعطل تمامًا نتيجة إهمالنا لها وعدم مبالاتنا بها ـ ربما كان قد قل اندفاعنا المغالى فيه إلى خارجنا خلال الأربعة القرون الأخيرة وضياع معظم استفادتنا بتلك النعمة نتيجة ترددنا المطرد بين المغالاة في الرغبة والرهبة والقبول والرفض والطمع والفزع، ولصرنا عندئذٍ أكثر حرصًا على ذلك الكنز الثمين وهو هبة سماوية بلا طلب.. وقد بتنا الآن في أشد الحاجة إلى من وما يعاوننا اليوم ـ على ردها إلى وعينا بعد ذلك الإغفال أو الإهمال، وإلى ما يوقظها من غرقها الحالي في الظلام والأوهام.. علمًا بأن الشعور القوى ـ أحيانًا ! ـ بالتفاؤل والثقة والقدرة على تغيير حالها ومحيطها وبسطة نفوذها وتوسيع سلطانه على غيرها ـ ليست فيما بدا ويبدو ـ إلاّ رحلة شباب لم يعركه توالى الأيام والليالي في اختلافها وأبيضها وأسودها.. رحلة شباب لم يعرف أن كل انتصار وقتي لأن وراءه عوارض وهزائم، ولم يذق مرارة انطفاء المجد بعد سطوعه أو زوال السيادة بعد مئات من سنى السؤدد والعزة !!
إذ الأجيال وجدت لتتعاقب دائمًا وحتمًا، ولكي يحل جديدها محل قديمها الذي تأخر وشاخ.. وهذا قلما يفطن إليه المحدثون.. خاصة الكثرة من أصحاب الادعاءات والرعونات والحماقات أو من الأغرار والنوام فضلاً عن المصابين بالخمر والمخدرات والقمار في مجتمعات الأمس واليوم التي لا تبالى بهذه الآفات ولا تلتفت إلى ضحاياها ولا في تعديها على حريات الأسوياء !