مفهوم البطولة في الشعر العربي (5)
من تراب الطريق (1091)
مفهوم البطولة في الشعر العربي (5)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 27/4/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
وكما سجل أبو تمام البطولات البرية شعرًا، نظم فيه ملحمته البائية الرائعة، انبرى البحتري لتسجيل البطولات البحرية شعرًا.. وقد كان للأسطول الإسلامي بطولات رائعة على شواطئ الشام ومصر وأفريقيا في العصر العباسي، وظل هذا الأسطول يمخر عباب البحر المتوسط، ويفتح جزيرة كريت، ثم يرفع أعلامه بعد سنوات قصيرة على صقلية بعد إنزال علم بيرنطة، وفي ولاية المتوكل خاض هذا الأسطول معركة رائعة سنة 232 هـ دمر فيها الأسطول الرومي الذي فر قائده هاربًا، فطفق البحتري يثنى على بطولة « أحمد بن دينا » قائد البحر، وصوره في إحدى مدائحه له ـ صورة يتقدم الأسطول ذات صباح في مركبه الميمون، ويصور الأسطول بعرض البحر، والملاحين وهم يعتلون أبراج السفن، والجنود بتأهبون للقتال وقد اصطفوا لتلقى الأوامر من « الإشتيام » أي أمير البحر.. ثم يأخذ البحتري في وصف المعركة قائلاً:
غدوتَ على الميمون صُبْحًا وإنما غدا الموكب الميمون تحت المظفّـرِ
إذا زمجر النوتى فوق عــلاته رأَيت خطيبًا في ذؤابـة منبــرِ
يغضّون دون الإِشتيام عيونهــم وفوق السمـاط للعظيــم المؤمَّـرِ
وحولك ركَّابون للهـول عاقـروا كئوس الرَّدى من دارعين وحُسَّــرِ
إذا رشقوا بالنار لم يك رشقهـم ليُقلع إِلا عـن شِــواءٍ مقتَّــرِ
صدمتَ بهم صُهْبَ العثانين دونهم ضراب كإيقاد اللظــى المتسعَّـرِ
يسوقون أُسطولاً كأن ســفينه سحائب صيفٍ من جَهام وممطــر
كأَن ضجيج البحر بين رماحهـم إذ اختلفت ترجيع عَوْدٍ مُجَرْجـــر
تقارب من زحفيهـمُ فكأَنمـا تؤلِّف من أَعناق وَحْشٍ منَفَّـــرِ
فما رِمْت حتى أَجْلَتِ الحرب عن طُلًـى مُقطَّعةٍ فيهــم وهـامٍ مطيَّـرِ
على حين لا نَقْعٌ يطوِّحه الصَّــبا ولا أَرض تُلفي للصريع المقطَّر
واضح أن البحري في الأبيات الثلاثة اولى يصور استعراض ابن دينار لأطوله ولحركته البحرية وإعداده للمعركة الحاسمة، ويمضى في وصفها، فيقول إن جنود الأسطول العربي مدربون على القتال في البحر: الدارعين منهم وغير الدارعين، ودائما ينشطون في رشق قذائف النار التي تحيل كل ما تمسه إلى ما يشبه لحمًا مشويًّا طلاه سواد القتار أو الدخان، وسرعان ما نشبت المعركة بينهم وبين الروم صهب العثانين أو بعبارة أخرى حمر الحى، وقد صوَّبوا عليهم قذائفهم المحرقة، والبحر يزمجر زمجرة عود مجرجر أو بعبارة أخرى زمجرة بعير يهدر بصوته، وقد تقارب الزحفان العربي والرومي بل التحما التحام وحوش كاسرة متنافرة، ويقول إن ابن دينار مازال يشعل الحمية في قلوب جنوده حتى محقوا الروم وحتى أجلت الحرب، وهى معركة في البحر لا يرتفع فيها الغبار كما يرتفع في معارك البر،
ولا يترامى الصرعى فيها على الأرض بل يغورون في المياه إلى غير مآب.
ويمضى بنا الدكتور شوقي ضيف إلى القرن الرابع الهجري، لنتلقى معه بسيف الدولة الحمداني أمير حلب، وهو أعظم بطل عربي تألق نجمه في سماء الحروب الرومية، إذ تحول بجنوده إلى ما يشبه سدًّا ضخمًا يصد سيول الروم، بل لقد تحول إلى ما يشبه صخرة عاتية تتحطم عليها غاراتهم وحملاتهم، بل إنه حوَّل ديارهم وأوديتهم إلى حرائق تسيل من تحتها دماؤهم المسفوحة، وكأنما تجسدت في ضميره البطولة العربية بكل أمجادها الحربية، وأحسَّ المتنبي كأنما هو الأمل الذي ظلت تمخضه العصور للعرب وظلوا يبحثون عنه طوال أيامهم ولياليهم، أو قل أحسَّ كأنه منقذ أرسلته العناية الإلهية ليرد عنهم عدوان المغيرين البيزنطيين في عصر خارت فيه قوى الخلافة العباسية ولم يعد لها حول ولا طول ولا من القدرة شيء، فهبّ هذا البطل يذود عن الحمى والذمار ويدافع عن الديار، بل لقد مضى يغير على البيزنطيين وينزل بهم هزائم ساحقة وهو يولون ويندبون ضارعين ولم يكن له عون في هذا المجد الحربى الرائع سوى الرقعة الصغيرة لحلب إمارته وما حواليها، ومع ذلك ظل يقلم أظفار قواد بيزنطة وجيوشها الجرارة، وظلت سيوفه وسيوف جنوده البسلاء تسيل دماء البيزنطيين أنهارًا، وكان طبيعيًّا أن تمتلئ ساحات حلب وأفنية قصوره فيها بالشعراء الذين جاءوه من كل مكان ليشيدوا ببطولته وبطولة جنوده ولم يلبث المتنبي أن قدم عليه، وكان قد أعياه البحث عن بطل عربي يرد عن العرب ظلم الحكام الأعاجم المتسلطين على الخلافة في بغداد، ويدفع عنهم ما يتعرضون له من غوائل العدوان، وكأنما رأى في سيف الدولة وبطشه بالروم من يحقق له أحلامه في البطولة العربية المفقودة، وكان هو نفسه فارسًا مقدامًا، فأطال المقام عند البطل الحمداني تسع سنوات طوالا، يرافقه في معاركه، وعليه درعه وزرده، وبيده سيفه، وفرسه يصهل ويلوَّح بعُرفه، ويعود معه بعد كل معركة، وقد امتلأ قلبه حماسة وبهجة بالنصر، فينشده قصائده مصورًا بطولته وبطولة حشوده.