مفهوم البطولة في الشعر العربي (4)
من تراب الطريق (1090)
مفهوم البطولة في الشعر العربي (4)
نشر بجريدة المال الاثنين 26/4/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
في عهد أبى بكر وعمر وعثمان، سحق المسلمون جحافل الروم، واضطروهم أن يرفعوا أيديهم عن الشام ومصر، ثم أخذوا يرفعونها مكرهين مقهورين مهزومين . وفي عهد الأمويين تقدم المسلمون إلى المحيط الأطلسي وعبروا المضيق إلى إسبانيا حيث صهلت خيول فرسانهم على مشارفها الشمالية . وكان طبيعيًا أن يعنى المسلمون منذ عصر عمر بن الخطاب ببناء أسطول يحمى ثغورهم الممتدة على البحر المتوسط، وأخذ هذا الأسطول يجوب المياه الشامية والمصرية، ودفعه معاوية إلى التغلغل في البحر، ففتحت قبرص سنة 28 هـ، وفتحت رودس سنة 32 هـ، وكسر تمثالها الضخم الذي كان يعد في العالم القديم إحدى عجائب الدنيا، ونشبت في البحر من ناحية الإسكندرية سنة 34 هـ موقعة ذات الصواري، بين الأسطول العربي المصري بقيادة عبد الله بن سعد بن أبى سرح والى مصر لعثمان والأسطول البيزنطي الرومي بقيادة إمبراطور بيزنطة قسطنطين بن هرقل، سميت الموقعة بذات الصواري لكثرة ما كان بها من صواري المراكب، وكانت عدتها ألفًا للبيزنطيين، ومائتين للمسلمين، وانتصر الأسطول العربي الحديث نصرًا مؤزرًا، لم يعد البيزنطيون بعده يفكرون في غزو الشواطئ الشامية والمصرية والإفريقية . أما المسلمون فقد ظلت قلاع أسطولهم وصواريه تنتشر في البحر المتوسط من حين إلى حين، وقد عادوا إلى رودس ففتحوها سنة 53 هـ، واستقروا بها حينًا من الدهر وظل الأسطول المصري يغدو ويروح على الجزر الصغيرة حتى إذا كانت سنة 81 للهجرة أرسى بسفنه على جزيرة قوصرة التي تبعد نحو ستين ميلاً من صقلية، فاستولى عليها، وكان ذلك إرهاصًا لاستيلاء المسلمين في القرن الثالث على الجزيرة الكبيرة .
وطوال هذا المدّ الإسلامي، في الحقب الأولى، كانت البطولات الإسلامية تضطرم في نفوس الشجعان البواسل، يساندها قوة الإيمان والعقيدة، وقوة النفس والعزيمة وصلابتها
، ولمعت في هذا المد أسماء كثيرين اشتهروا بالشجاعة والبلاء، كان أحدهم « عبد الله البطال » الذي كان على رأس طلائع القائد مسلمة بن عبد الملك، المعروف بالجرادة الصفراء، وملأ عبد الله البطال القلوب خوفًا ورعبًا من بطولته ومضائه .
وقد تغنى شعراء العربية كثيرًا بانتصاراتهم على الروم، مثلما قال أشجع السلمى:
برقت سماؤك في العدوّ وأمطرت هامًا لهل ظل السيوف غمامُ
رأىٌ الإمامِ وعزمُهُ وحسامُهُ جندٌ وراء المسلمين قيامُ
وصلت يداك السيف حين تعطلت أيدي الرجال وزلت الأقدام
ويقال إن الرشيد اهتز حين سمع هذه القصيدة، وأمر بأن ينثر على « أشجع » الدر استحسانًا وإعجابًا، فقد عرف كيف يجسم ما انزله بالروم ونقفور من الرعب الهائل، وفي الوقت نفسه صور إقدامه وحزمه وبأسه ونفاذ بصيرته وشدة شكيمته، وكيف جعل أعداءه لا يفلتون من الخوف صباح مساء، بل إن فرائصهم لترعد دائمًا، لما لا يرون في مجال الحرب.
ويدور الزمن دورته، فيواجه المأمون في العقد الثاني من القرن الثاني الهجري، مواجهات عديدة مع الروم .. بأذربيجان، وأنطاكية، والمصيصة، وطرسوس، وملطية، والمطامير، وغيرها .. ويحقق انتصارات ساحقة على « تيوفيل » إمبراطور بيزنطة، ويكتسح الجنوب الغربي لآسيا الصغرى، وعاد مأمون بجيشه المنتصر إلى دمشق، واتجه منها إلى مصر .. وتغنى أبو تمام في أسفاره ببطولته وبطولة جيشه وكتائبه وقواده . قال في إحدى مدائحه:
مُستَرسِلونَ إِلى الحُتوفِ كَأَنَّما بَينَ الحُتوفِ وَبَينَهُم أَرحامُ
آسادُ مَوْتٍ مُخَدَّرَاتٌ مالَها إلاَّ الصَّوَارِمُ وَالقَنَا آجامُ
حَتّى نَقَضتَ الرومَ مِنكَ بِوَقعَةٍ شَنعاءَ لَيسَ لِنَقضِها إِبرامُ
وفَصَمتَ عُروَةَ جَمعِهِم فيهِا وَقَد جَعَلَت تَفَصَّمُ عَن عُراها الهامُ
وهو يشير في القصيدة إلى أن المأمون في حروبه مع البيزنطيين يصدر عن شعور عميق بنصرة الدين الحنيف ضد أعدائه وما يملأ نفوسهم من استعلاء وشراسة وحدة . ويقول إنه يقود جيشًا كثيفًا، موقنًا بدينه ونصره مقدمًا لا يلوى على إحجام، وإن كل شخص في الجيش ليحس كأن بينه وبين ضروب الموت أرحامًا متواصلة، بل لكأنهم جميعًا آساد غاباتها وأجماتها السيوف والرماح، وقد ظلوا يطعنون الروم حتى كأنما لم يعد من الممكن أن ينقضوا هذا النصر المبين الذي قصم ظهورهم وسحقهم سحقًا .
وعاد أبو تمام ليتغنى بالبطولات التي حققها المعتصم بعد أن تولى إثر وفاة أخيه المأمون، وأبو تمام هو أكبر شاعر سجل الفتح الذي حققه المعتصم، وحول تسجيله لهذا الفتح إلى ملحمةٍ رائعة استهلها بقوله:
السيفُ أصدقُ أَنباءً من الكتب في حَدِّهِ الحَدُّ بين الجَدِّ واللّعِـبِ
وفيها قال عن المعتصم:
لم يَغْزُ قومًا ولم ينهض إلى بلدٍ إلاّ تقدَّمه جيش من الــرُّعُبِ
لو لم يقد جَحْفَلاً يوم الوغَى لغَدَا من نفسهِ وحدها في جفَلٍ لجحب
فدائما يسبق جيشه الحربى إلى بلاد العدو جيش نفسى من الخوف والرعب، ويفكر في صلابة المعتصم وشجاعته التي لا تعرف صعفًا ولا خورًا، وإنم تعرف المضاء والتصميم والقوة التي تهدد كل ما تلقاه وتعرِّضه للخطر، حتى لكأن المعتصم وحده جيش جرار، ويحيِّى فيه نجدته للمرأة التي صاحت وامعتصماه قائلاً:
لبَّيْت صوتًا زبَطريَّا َأَرَقْتَ له كأْسَ الكَرَى ورُضابَ الخُرَّد العُرٌبِ
فهو قد لبَّى صوتها ودعاءها نافضًا عن عينيه الكرى حتى ينتصر لها، ورافضًا رضاب الغيد الحسان حتى يسترد شرفه مهما تجشم من الأهوال وتحمل من الخطوب . ويمضى فيتحدث عن المعركة وما كان به من عراك وجلاد وقتال، وتيوفيل يهرب من مكان إلى مكان ومن أكمة إلى أكمة، يطلب النجاة من أسد الشرى . ويختم أبو تمام قصيدته بل ملحمته بالموازنة بين يوم عمورية ويوم بدر، فإذا كان اليوم الأخير موقعة فاصلة بين الشرك والإسلام فإن يوم عمورية بدوره موقعة فاصلة بين الروم والعرب ولن تقوم لهم من بعده قائمة، وستظل وجوههم يغشاها الذل والهوان .