مفهوم البطولة في الشعر العربي (3)
من تراب الطريق (1089)
مفهوم البطولة في الشعر العربي (3)
نشر بجريدة المال الأحد 25/4/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
كان لعلى بن أبى طالب القدح المعلى في البطولة والأبطال في صدر الإسلام، وكان المثل الأعلى، والفدائي الأول.. وقد رأينا جانبًا من بطولته يوم بدر، وما قيل يومها من الشعر في تمجيد بطولته في النزال والمبارزة.. وما من غزوة أو موقعة إلاَّ ونلتقى فيها بالإمام علىّ وبطولته الخارقة وهو يطيح بالمشركين والكافرين، وكأنه يطلب الاستشهاد ليفوز بالحسنيين: رضوان ربه ونعيمه.. وحقت فيه كلمة العرب التي توارثوها من قديم.. اطلب الموت ؟ توهب لك الحياة.. فكان يكفي أن يظهر علىّ أمام منازله حتى تأخذه الرهبة، حتى قال عنه الرسول عليه الصلاة والسلام: « لا سيف إلاَّ ذو الفقار، ولا فتى إلاَّ علىّ ».
في لقاء القادسية مع الفرس، تهاوى الجيش الفارسي الضخم أمام ضربات البطولة العربية.. فإذا بالأعاجم يولون الأدبار، ويُقتل قائدهم رستم في المعركة، وسجل قيس بن مكشوح هذا الشرف لنفسه في شعره، فقال مما قال:
ولما أن رأيت الخيل جالتْ قصدتُ لموقف الملك الهمامِ
فأضرب رأسه فهوى صريعًا بسيف لا أَفَلَّ ولا كَهَامِ.
فلما جاءت أخبار نصر القادسية إلى الجزيرة، وزُفت إلى الناس بشارة هذا النصر العظيم، تغنى الناس وتغنت القبائل بهذا النصر، وتغنت به القبائل اليمنية، من ذلك أن امرأةً سُمعت تتغنى ليلاً على جبل بصنعاء.. تشيد ببطولة قومها تخع في المعركة، ومما قالت:
فحيتَّك عنى عصبةٌ نَخَعِيَّةٌ حسانُ الوجوه آمنوا بمحمدِ
أقاموا لكسرى يضربون جنودَه بكل رقيق الشّفرتين مهندِ.
وتطايرت في أنحاء الجزيرة أغانٍ وأشعار على هذه الشاكلة، تمجد شجاعة المجاهدين، وتشيد ببسالتهم واقتحامهم أهوال الحرب في غير خوف ولا وجل، في إقدام تسابق فيه الكل ليشارك في طلب الجهاد.
بيد أنه وكأنما أريد لهذا السيل الطامى الذي غمر الفجاج والشعاب من أواسط آسيا إلى مصر وشمالى مصر ؛ أن يتوقف فجأة إزاء أحداث الفتنة الكبرى التي تصاعدت بمقتل عثمان، وخروج معاوية على ولاية الإمام علىّ الذي بويع بالخلافة، وكان أكثر هذه التطورات أسفًا، خروج الخوارج على الجميع، وإشعالهم حروبًا ضارية، تحول كل منهم فيها إلى مجاهد شاكى السلاح يطلب الموت والشهادة في ميادين الجهاد، وتحولت جماعتهم إلى كتائب حربية تقدم على الموت بنفوس راضية، فتحولوا بمفهوم البطولة إلى جنوح رسم صفحة سوداء.
وصاحب هذا الجنوح، خروج نساء الخوارج إلى القتال طلبًا لشهادةٍ يجتزن بها الباب الموصد بينهن وبين فراديس الجنان.
كان من حاملات السيف « أم حكيم » بطلة الأزارقة، وكانت من أشجع النساء وأجملهن وجهًا. خطبها عديدون فردتهم ولم تجب أحدًا منهم، وطفقت تحارب في صفوف الخوارج، تحمل على الناس، وأصحابها يفدونها بالآباء والأمهات، وهى تصول وتجول مرتجزةً:
أحمل رأسًا قد سئمت حمله وقد مللت دَهْنه وغَسْله
ألا فَتًى يحمل عنى ثَقِلهْ
في هذا الرجز، صورت أم حكيم أمنيتها في الفوز بالشهادة، وتستبطئ تحقيقها..
أما قطرى بن الفجاءة، أشهر أبطال الخوارج قاطبة، وزعيم فرقة الأزارقة، فقد ظل يقاتل معارك عنيفة في بسالة منقطعة النظير، داعيًا إلى الصبر والثبات ووجوب المدافعة في كل شبر من الأرض، يخاطب نفسه بشعره.
أقول لها وقد طارت شعاعًا من الأبطال ويحكِ لن تُراعى
فإنك لو سأَلتِ بقاءً يــومٍ على الأَجل الذي لك لم تطاعى
فَصَبرًا في مجال الموت صَبْرًا فما نَيْلٌ الخلود بمستطــاعٍ
ولا ثوبُ البقاء بثوب عِــزٍّ فيطوى عن أخى الخَنع اليراعِ
سبيل الموت غاية كل حــىًّ فداعيه لأَهل الأَرض داعـــى
ومن لا يُعْتبطْ يَسْأَمْ ويَهْرَع وتسلمه المنون إلى انقطـاعِ
وما للمرء خيرٌ في حيــاة إذا ما عُدَّ من سقَط المتــاع
والقطعة تفيض ببسالة قوية لا تعرف ضعفًا ولا فتورًا ولا ترددًا ولا إحجامًا، هو يصور فيها نفسه في المأزق الضنك حين لا يبْقى من الموت مفر، فتهلع النفوس وتجزع، أما هو فلا ينكص، بل يظل يقتحم أهوال الحرب مخاطرًا مخاطرةً جريئة بنفسه، وإنه ليدعوها أن تظل صلبة قوية، ومم تخاف ؟ أمِن الموت ؟ وهل يموت أحد إلاّ وقد بلغ أجله الذي قُدّر له في أم الكتاب ؟ إن الجبن لا يطيل أجلاً ولا يؤخر إنسانًا يومًا عن يومـه الموعود.
وإننا لنأسى، كما أسى أستاذنا شوقى ضيف، لبطولة هؤلاء الخوارج التي بَدَّدوها في محاربة إخوانهم في الدين. فهل أعاد التاريخ نفسه ؟!!!