معنى عالمية دعوة الحق
من تراب الطريق (941)
معنى عالمية دعوة الحق
نشر بجريدة المال الأربعاء 23/9/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
من البديهي أن عالمية دعوة الحق، لا يمكن أن تعنى بالضرورة أن يتسيد المسلمون على العالم كله سياسيا أو اقتصاديا أو فكريا.. ذلك أن الاتجاه إلى الحق عز وجل خال تماماً من التسيد على الخلق، وهو حق الوصاية والسيطرة والتسلط على الأرواح والعقول في جميع أشكالها وألوانها.. إن الدعوة تتجه وتساعد ما وسعها ـ الأرواح والعقول الحرة غير المكبوتة أو المكبلة.. والعواطف الإنسانية لا الحيوانية.. لتتجه كل هذه الأرواح في كل مساعيها إلى الحق تبارك وتعالى، وتسلم له قيادها النهائي بلا قيد أو شرط.. وكيف تضع قيودًا أو شروطًا وهذا هو إخلاصها لفطرتها ومصيرها؟
يؤكد الأستاذ الجليل محمد عبد الله محمد، أن الاتجاه إلى الله تحرك حىّ نشط لروح حيّة نشطة.. حياته متوقفة على نشاطه وقوته.. إذا وهن وضعف ـ انقطع وخمدت الروح !
يلفتنا محمد عبد الله محمد إلى أن من أجمل الأشياء وأجلّها في عين المتأمل، سمو وتعالى العقيدة الدينية ، وثباتها على مَرّ وهجمات الزمن، وعدم خضوعها لقصر أعمار الأفكار والأذواق .. على أن المفاهيم « المعينة » للعقيدة « المرتبطة » بأزمان أو أمكنة « معينة » ، لا يمكن أن تقاوم إلى غير حد ـ تراكم التآكل والتيبس فيها ، وأمواج التغير والتحول المستمرة في العقول والقلوب ، وتوالى الموت والميلاد على البيئات التي تتداول هذه المفاهيم « المعينة ».
إن بقاء العقيدة هو بقاء جوهرها غير القابل للهرم ، لأن هذا الجوهر غير مرتبط بظروف زمان أو مكان .. ولذلك يبقى فعالاً قادرًا باستمرار على إقناع وإرضاء وإشباع أجيال جديدة من الأرواح والعقول إلى ما شاء الله .
ولذلك فإن من أهم واجباتنا، فيما ينبه محمد عبد الله محمد ، واجب تمكين العقيدة من أن تعيش حيّة جليلة .. وهذه الحياة الجليلة مكانها العقول والعواطف الشجاعة المخلصة ، وتبقى حيّة مؤثرة ما بقى على الأرض أناس يحملون الشجاعة والإخلاص . وسبيل هذه المعايشة الضرورية الواجبة ـ هو الفهم المخلص والمزيد منه ومن الإصرار عليه . هذا الفهم هو لدور العقيدة ومهمتها في حياة الناس، بالدقة التي يتطلبها عصرهم، وبتفاعلها الرشيد مع القيم والمعارف والأفكار الجادة المقبولة في ذلك العصر .
ومن المهم الالتفات إلى أن الحياة في مجملها عادات، واختلافها اختلاف عادات، ومن أجل ذلك فإن الدين لا يضع للناس صيغًا رياضية كالمعادلات الجبرية أو الكيماوية، وإنما يضع معايير وضوابط للسلوك المتوجه إلى الحق عز وجل . ويتوقف نجاحها أو فشلها على مبلغ نمو ضمائر الناس وإخلاصهم وحسن نيتهم ونمو إدراكهم وذوقهم وقدراتهم على التعامل المثمر مع ظروف بيئتهم وعملهم .
إننا نسئ إلى الإسلام، مع الإساءة لأنفسنا، حين نتصور أننا لا نكون مسلمين حقًا إلاّ إذا طوينا القرون القهقري، وعدنا بحياتنا وقلدنا تقليداً حرفيا لا يتمثل المعنى والمغزى ـ ما كان عليه الأسلاف في حياتهم المادية والفكرية والعاطفية من قرون . ومن يفهم الإسلام، يدرك أنه لا يغفل ولا ينسى أن السنة المطهرة روح وتأثير روح في أرواح .. فالسنة ليست محض محاكاة مساكن وملابس ومآكل ومشارب وعادات اجتماعية كانت بنت زمانها ومكانها . إن السنة ليست تقليد أساليب ووسائل وأدوات للتواصل والاتصال والانتقال وتعاطى السلم والحرب.. فإن ذلك كله قد تغير وتغيرت معطياته بما لا جدوى معه ولا معنى ـ من محاكاته كما كان، أو تقليده تقليدا ماديا متكلفا لا معنى له ولا غاية حقيقية منه.
يرى محمد عبد الله محمد أننا نتجاوز قدرنا وسلطتنا ـ إذا حاولنا أن نخطط نحن معالم الحياة الإسلامية مثلما ينظم الواقفون ويخططون لأوقافهم وحبوسهم، أو مثلما يخطط ويتحكم المحتكرون في أحكارهم!
لا يستطيع أحد، ولا يملك، أن يلزم الأجيال القادمة بتخطيطه وتنظيمه، ولا أن يسبقها إلى رؤيتها لما ترى أن تتفاعل فيه مع زمانها.. إن الأجيال القادمة ستبقى إن شاء الله تعالى مسلمة، إلهها واحد، وكتابها واحد، ونبيها واحد.. لا لأننا ألزمناها وكلسناها على ما نراه في زماننا، وإنما لأن جوهر الإسلام يأخذها وييمم بها إلى حيث وجهتها واتجاهها بإخلاص إلى الله عز وجل .