مصر وفجر الضمير ومسئولية الحاضر

مصر وفجر الضمير ومسئولية الحاضر

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 15/5/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

لست أعرف، وذلك محال، أعداد من قرأوا كتاب : « فجر الضمير » الذي ألفه جيمس هنري بريستيد، وترجمه للعربية عالم المصريات الكبير الدكتور سليم حسن، ولكنى أستطيع أن أحدس أن من لم يقرأوه كثرة كثيرة غفيرة تملأ صفحة الأفق، أجزم بذلك بما أحسه من تراجع القراءة بعامة حتى في المسائل اليومية السريعة والأخبار والمقالات والتحليلات. معظم الناس يحسنون أو بالأحرى يفضلون الكلام واللغو فيه على تعب القراءة والتأمل. لست عن العامة أتحدث، وإنما لاحظت ذلك فيمن يدرجون في عداد المثقفين، فصارت الثقافة محض « حلية » يتمسح فيها الراغب في اللقب.. لقب المثقف، دون أن يكلف نفسه عناء التواصل الحقيقي مع دنيا الثقافة وما تحفل به !!

هذا الكتاب إقرار موثق بسبق الحضارة المصرية وأثرها على العالم. ظني أنه أعظم ما يمكن أن يزجى لمثقف راغب في فهم الحياة ورحلة الإنسان الطويلة التي نبت ونما فيها الضمير الإنساني ونشأت الأخلاق وتطورت الديانات من عبادة ظواهر الطبيعة إلى أن اهتدى إلى وحدانية الله ووحدة الوجود. هذه الرحلة الطويلة المفعمة بالعبر، قد جرت في مصر التى يراها المؤلف « جزيرة المنعمين ».

مؤلف الكتاب محب لليهود، وعلى صداقة وطيدة بكثيرين وبذوى المكانة منهم، يسجل ذلك من البداية ليؤكد أن ما اهتدى إليه بحثه ليس نابعا عن معاداة للسامية، وإنما هو انصياع للمنهج العلمي وما هداه إليه.

يكشف المؤلف كيف في البداية اعتراه القلق حين أظهرت التجارب أن المصريين كان لهم مقياس خلقي أسمى بكثير من الوصايا العشر، وأن هذا المقياس ظهر قبل أن تكتب الوصايا العشر بألف سنة ! وكيف تجلى له في كشفه العظيم أن حكمة « أمينمو بى » المحفوظة في ورقة مصرية بالمتحف البريطاني، كانت قد ترجمت إلى العبرية في الأزمان الغابرة، وأنه بذيوعها في فلسطين صارت مصدراً استُقِىَ منه جزءٌ بأكمله من كتاب الأمثال في العهد القديم.. لا يتردد « بريستيد » أن يسجل في وضوح، ومن حصاد بحث طويل : « إن التقدم الحضاري في الممالك التي تحيط بفلسطين كان أقدم بعدة آلاف من السنين من التقدم العبري، وأنه أصبح الآن من الواضح الجلي أن التقدم الاجتماعي والخلقي الناضج الذي أحرزه البشر في وادي النيل الذي يعد أقدم من التقدم العبري بثلاثة آلاف سنة، قد ساهم مساهمة فعلية في تكوين الأدب العبري الذي نسميه نحن « التوراة »، وعلى ذلك فإن إرثنا الخلقي ـ هكذا يقول بريستيد ـ مشتق من ماض إنساني واسع المدى أقدم بدرجة عظيمة من ماضي العبرانيين، وأن هذا الماضي لم ينحدر إلينا من العبرانيين، بل جاء من المصريين ».

مصر هي مهد الحضارة وأصل مدنيات العالم، ومنبت نشوء الضمير، والبنية الأولى التي نمت فيها الأخلاق. هذه هي مصر، وهو ما وثقه الأستاذ عباس العقاد في كتابه عن أسبقية الحضارة العربية على الحضارة اليونانية والعبرية.

هكذا كانت مصر التي بزغ فيها المسيحية والإسلام، واتسعت باحتها لتتآخى الأديان فيها وتتعايش ولا تتصارع.. ظل الضمير لدى غالبيتها فجرًا دائمًا صمد أمام كل موجات وضربات التطرف والإرهاب. نرى ذلك في الصلات الحقيقية والصداقات الحميمة بين أرباب الأديان، وتراه في تجاوز الجوامع والكنائس، وفي المزارات المسيحية التي يتردد المسلمون لزيارتها والتبرك بها. وتراه في المشاعر المشتركة في قضايا وآمال الوطن، وفي المواقف المصيرية.

كتبت كثيرًا عن الجماعة الوطنية، وجمعت ما كتبته في كتاب صدر سنة 2008، ثم أعيد نشره، بعنوان « الوحدة والجماعة الوطنية »، ضم فصولاً عن الإسلام واحترامه كافة الرسالات، وعن سماحة المسيحية، وعن كون الأديان « هداية، لا أمجاد »، وبراءة الأديان وبنيانها وتعاليمها من أسباب الاحتقان، وإنما تأتي السحابات من خارج الدين، وكيف ثبتت الوحدة الوطنية في مصر أمام أقوى الأعاصير، كما ضمت فصلاً عن « محبة المسيح » في نسيج الإسلام والمصريين.

هذه هي مصر التي نعيش فيها، وتعيش فينا. مهدًا في السالف والحاضر للحضارة، ومنبت نشوء وحياة الضمير.

زر الذهاب إلى الأعلى