مشروعية قرار إحالة سيدة المحكمة من الزاوية الدستورية
بقلم : أ/ محمد شعبان
أثارت واقعة الشجار التي دارت رحاها فيما بين السيدة المستشار بهيئة النيابة الإدارية وقائد حرس محكمة مصر الجديدة، جدلاً كبيراً على وسائل التواصل الإجتماعي، وقد جاءت التعليقات ما بين استنكار لفعل السيدة وتجاوزها لحدود الاستعمال المشروع والمباح للحصانة القضائية، واستنكار فعل الضابط الذي رأى البعض في تصرفه نوعاً من الغُلو والإفراط في تطبيق القانون على نحو جعله يسخر سلطته للإنتقام من السيدة.
وأخيراً طوت النيابة العامة هذه الصفحة بما انتهت إليه في تصرفها في التحقيقات التي أجريت بمعرفتها في الواقعة المذكورة، من قرار بإحالة السيدة المذكورة إلى المحاكمة الجنائية، لمعاملتها على ضوء المواد المؤثِمة لجرائم الإعتداء على رجال الضبط باستخدام القوة والعنف أثناء وبسبب تأدية عمله وإتلاف أموال الغير على نحو ما أفصح البيان الصادر منها والمنشور على صفحتها الرسمية.
وإذ أتناول هذا القرار بالتعليق والبحث في هذا المقال، فإنني أركز عليه من الجانب القانوني فحسب، دونما أي تصدي لموضوع الواقعة (استنكاراً أو تأييداً لموقف أي من طرفيها) وإنما أجتهد رأيي في هذا الخصوص بحثاً عن إجابة للسؤال المطروح والذي يدور حول مدى مشروعية قرار إحالة سيدة المحكمة من الزاوية الدستورية؟!
فمن المعلوم أن الدستور القائم – والذي سبقه – قد جعل للنيابة الإدارية وضعاً خاصاً من خلال التأكيد على مكانة ودور هيئة النيابة الإدارية في هرم السلطة القضائية في الدولة المصرية، وانطلاقاً من ذلك جاءت المادة (197) لتنص على أن : ” النيابة الإدارية هيئة قضائية مستقلة، تتولى التحقيق في المخالفات الإدارية والمالية، وكذا التي تحال إليها ويكون لها بالنسبة لهذه المخالفات السلطات المقررة لجهة الإدارة في توقيع الجزاءات التأديبية، ويكون الطعن في قراراتها أمام المحكمة التأديبية المختصة بمجلس الدولة، كما تتولى تحريك ومباشرة الدعاوى والطعون التأديبية أمام محاكم مجلس الدولة، وذلك كله وفقا لما ينظمه القانون. ويحدد القانون اختصاصاتها الأخرى، ويكون لأعضائها كافة الضمانات والحقوق والواجبات المقررة لأعضاء السلطة القضائية. وينظم القانون مساءلتهم تأديبياً”.
والبيِن من هذا النص أن هيئة النيابة الإدارية هي هيئة من ضمن الهيئات القضائية التي نظمها الدستور وجعل لأعضائها كافة الضمانات والحقوق والواجبات المقررة لسائر أعضاء السلطة القضائية. وهي وفقاً لهذا الوضع شأنها شأن هيئة النيابة العامة والقضاة سواء من المنتمين إلى القضاء العادي أو إلى قضاء مجلس الدولة أو المحكمة الدستورية العليا أو القضاء العسكري، فالجميع يتمتعون – بصريح نص الدستور- بذات الضمانات والحقوق والواجبات على التساوي، وهو مما لا يسوغ معه إيثار التنظيم القانوني لأي هيئة من هذه الهيئات بقواعد مغايرة للتنظيم القانوني لأية هيئة أخرى لها ذات مركزها القانوني، وإلا عُد ذلك اخلالاً في المساواة ينحدر بهذا التنظيم القانوني إلى عدم الدستورية.
وإذا كان البين من قرار النيابة العامة أنها إذ قررت إحالة السيدة المذكورة إلى المحاكمة الجنائية، أنها تساندت إلى ظاهر نص المادة (40 مكررا – 2 ) من القانون رقم 117 لسنة 1958 في شأن إعادة تنظيم النيابة الإدارية والمضافة بالقانون رقم 12 لسنة 1989 والتي تنص على أنه : “لا يجوز في غير حالات التلبس بالجريمة القبض على عضو النيابة الإدارية أو حبسه احتياطياً أو اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق أو رفع الدعوى الجنائية عليه إلا بعد الحصول على إذن من المحامي العام المختص. وفي حالة التلبس يجب عند القبض على عضو النيابة الإدارية أن يخطر المحامي العام المختص ليقرر حبسه أو الإفراج بكفالة أو بغير كفالة، وذلك بعد تحقيق يندب لإجرائه أحد أعضاء النيابة العامة. ويخطر رئيس هيئة النيابة الإدارية عند إجراء التحقيق أو القبض على أحد أعضاء النيابة الإدارية أو حبسه احتياطياً. ويجرى تنفيذ الحبس والعقوبات الأخرى المقيدة للحرية في أماكن مستقلة عن الأماكن المخصصة لحبس السجناء الآخرين”.
وظاهر هذا النص يناقض نص المادة 96 من قانون السلطة القضائية الصادر بالقرار بقانون رقم 46 لسنة 1972 والتي نصت على أنه: ( في غير حالات التلبس بالجريمة لا يجوز القبض على القاضي وحبسه احتياطياً إلا بعد الحصول على إذن من المجلس المنصوص عليه في المادة (94) ( مجلس القضاء الأعلى بعد التعديلات التي أدخلت بالقانون رقم 35 لسنة 1984 ) .وفي حالات التلبس يجب على النائب العام عند القبض على القاضي وحبسه أن يرفع الأمر إلى المجلس المذكور في مدة الأربع والعشرين ساعة التالية وللمجلس أن يقرر إما استمرار الحبس أو الإفراج بكفالة أو بغير كفالة وللقاضي أن يطلب سماع أقواله أمام المجلس عند عرض الأمر عليه.ويحدد المجلس مدة الحبس في القرار الذي يصدر بالحبس أو باستمراره وتراعى الإجراءات السالفة الذكر كلما رؤي استمرار الحبس الاحتياطي بعد انقضاء المدة التي قررها المجلس.وفيما عدا ما ذكر لا يجوز اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق مع القاضي أو رفع الدعوى الجنائية عليه في جناية أو جنحة إلا بإذن من المجلس المذكور وبناءً على طلب النائب العام.ويجرى حبس القضاة وتنفذ العقوبات المقيدة للحرية بالنسبة لهم في أماكن مستقلة عن الأماكن المخصصة لحبس السجناء الآخرين.
كما يناقض نص الفقرة الأولى من المادة (91) من قانون مجلس الدولة الصادر بالقرار بقانون رقم 46 لسنة 1972 والتي تنص على أن: ( أعضاء مجلس الدولة من درجة نائب فما فوقها غير قابلين للعزل، ويسري بالنسبة إلى هؤلاء سائر الضمانات التي يتمتع بها القضاة، وتكون الهيئة المشكل منها مجلس التأديب هي الجهة التي المختصة في كل ما يتصل بهذا الشأن… “…).
كما يناقض نص الفقرة الأخيرة من المادة (3) من قانون القضاء العسكري المستبدلة بالقانونين رقمي 16 لسنة 2007 و 138 لسنة 2010 على أنه : ” … وفي غير حالات التلبس بالجريمة لا يجوز القبض على ضابط القضاء العسكري، وحبسه احتياطياً، إلا بعد الحصول على إذن من لجنة هيئة القضاء العسكري. وفي حالات التلبس يجب على المدعي العام العسكري عند القبض على ضابط القضاء العسكري وحبسه أن يرفع الأمر إلى اللجنة المذكورة في مدة الأربع والعشرين ساعة التالية، وللجنة أن تقرر إما استمرار الحبس أو الإفراج بكفالة أو بغير كفالة، ولضابط القضاء العسكري أن يطلب سماع أقواله أمام اللجنة عند عرض الأمر عليها. وتحدد اللجنة مدة الحبس في القرار الذي يصدر بالحبس أو باستمراره وتراعي الإجراءات السالفة الذكر كلما رئي استمرار الحبس الاحتياطي بعد انقضاء المدة التي قررتها اللجنة. وفيما عدا ما ذكر لا يجوز اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق مع ضابط القضاء العسكري، أو رفع الدعوى الجنائية عليه في جناية أو جنحة، إلا بإذن من اللجنة المذكورة وبناء على طلب من المدعي العام العسكري. ويجرى حبس ضباط القضاء العسكري وتنفيذ العقوبات المقيدة للحرية بالنسبة لهم في أماكن مستقلة عن الأماكن المخصصة لحبس السجناء الآخرين”.
ووجه المناقضة بين النصوص المذكورة ونص المادة (40مكرر – 2) من قانون تنظيم هيئة النيابة الإدارية يتضح بجلاء في عدم اشتمال النص الأخير على ما يكفل لأعضاء هيئة النيابة الإدارية ذات الضمانات المقررة لأعضاء السلطة القضائية. فمن حيث إن عضو هيئة النيابة العامة لا يجوز رفع الدعوى الجنائية عليه إلا بعد استصدار إذن من المجلس المختص وهو ( مجلس القضاء الأعلى )، شأنه في ذلك شأن عضو مجلس الدولة الذي لا يجوز رفع الدعوى الجنائية ضده إلا بعد استئذان ( المجلس الذي يشكل منه هيئة التأديب)، شأنه كذلك شأن عضو هيئة القضاء العسكري الذي لا يجوز رفع الدعوى الجنائية ضده إلا بعد استئذان (لجنة هيئة القضاء العسكري)؛ نجد أن عضو هيئة النيابة الإدارية – وهو على درجة متساوية مع أعضاء الجهتين السابقتين – يُكتفى في شأنه باستئذان المحامي العام المختص!!، وهو ما يتضمن مساساً بالإستقلال الذي كفله الدستور لهيئة النيابة الإدارية، وهذا المساس يقود إلى مخالفة دستورية أخرى، وهي الإخلال بمبدأي المساواة وتكافؤ الفرص بين أصحاب المراكز القانونية.
ومن جماع ما تقدم؛ يتضح أن قرار النيابة العامة بإحالة السيدة المستشارة بهيئة النيابة الإدارية المتهمة إلى المحاكمة الجنائية – والذي تساند إلى نص المادة (40 مكرر- 2 ) من قانون إعادة تنظيم النيابة الإدارية الذي لم تُراع فيه الضمانات الدستورية المقررة بموجب أحكام المادة (197) من الدستور- عُرضة للدفع بالبطلان الذي ينال من مشروعية اتصال المحكمة بالدعوى الجنائية، لاستنادة إلى النص المشتبه في مخالفته الدستورية على نحو ما تقدم.
وهذه الإشكاليات المثارة مرجعها إلى المشرع – ممثلاً في مجلس النواب المنتهية ولايته – والذي كان يتوجب عليه معالجة القصور التشريعي في المادة المذكورة، من خلال التصدي لها عن طريق قيام أعضاءه – وفقاً للنصاب القانوني المطلوب – باقتراح مشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون تنظيم هيئة النيابة الإدارية، بما يتناسب مع الوضع الدستوري الجديد للهيئة، إلا أن التراخي في معالجة هذا الوضع هو ما أثار هذه الإشكالية القانونية الخطيرة التي من شأنها أن تحجب عن القضاء النظر في الواقعة التي هزت وجدان الرأي العام، ليقول فيها كلمته.