مشروعية تساند الأدلة الجنائية
مقال بقلم: الدكتور أشرف نجيب الدريني
هل يكفي أن تتساند الأدلة الجنائية حتى تُبنى عليها عقيدة المحكمة بالإدانة؟ وهل كل توافق بين مجموعة من الأدلة والقرائن يعني بالضرورة أنها تكفي وحدها لإثبات التهمة؟ أم أن هذا التساند قد يخفي أحيانًا هشاشة في كل دليل على حدة؟ وهل القاضي الجنائي مُلزم بالاقتناع بكافة الأدلة، أم يكفي اقتناعه بها مجتمعة؟ وما الحدود الفاصلة بين القناعة الشخصية وبين التقدير القضائي الموضوعي في ضوء مبدأ الشك يفسر لمصلحة المتهم؟
طرح مثل هذه الأسئلة لم يعد مجرد نقاش أكاديمي، بل بات ضرورة عملية في ضوء ما نشهده من ميل بعض الأحكام إلى الاعتماد على فكرة “تساند الأدلة” دون تمحيص كافٍ لكل دليل بمفرده. صحيح أن الفقه التقليدي استقر على أن الأدلة الجنائية تتساند، وأن المحكمة يمكن أن تستمد اقتناعها من أدلة متعددة لا ينهض أحدها وحده للإثبات، لكنها مجتمعة تشكل عقيدة قضائية مطمئنة. غير أن هذه القاعدة – رغم وجاهتها الشكلية – لا ينبغي أن تتحول إلى مسلك تبريري يُفضي إلى الإدانة بمحض التجميع الشكلي لأدلة ظنية.
فالخطر الأكبر في نظرية التساند يكمن في تجاوز كل دليل لمعيار القوة الذاتية، ليُستبدل بمنطق أن ضعيفًا مع ضعيف يُنتجان قوة، وهو ما لا يستقيم منطقيًا ولا قانونيًا. لأن الأصل في الإدانة أن تُبنى على الجزم واليقين المستخلصين من أدلة ذات حجية، لا على الظن والتكامل الصوري بين قرائن ربما لو فُصلت عن بعضها لانهارت. فالتساند لا ينبغي أن يكون ذريعة لإضفاء المصداقية على أدلة لا تتسم بالقوة أصلاً، ولا أن يُستخدم كأداة لإقناع المحكمة بما عجز كل دليل عن تحقيقه على حدة.
القاضي الجنائي لا يعمل في فراغ، بل هو محكوم بضمانات المحاكمة العادلة، وفي مقدمتها قرينة البراءة، ومبدأ الشك يفسر لمصلحة المتهم. فإذا كانت الأدلة متساندة ظاهريًا، فإن واجب القاضي أن يتسلح بالتحليل العميق، وأن يتحرى مدى اتساقها المنطقي، لا أن يُسلم بمظهرها الخارجي. فكم من تساند ثبت أنه مجرد توافق زائف بين أدلة متداعية. وليس من العدالة في شيء أن يُدان متهم على أساس بناء وهمي لعقيدة جنائية قائمة على أدلة هشة تم تعزيزها ظاهريًا بالتكرار أو التوافق الصوري.
التساند العملي بين الأدلة الجنائية لا يعني مجرد اجتماعها عدديًا، بل يفترض وجود ترابط موضوعي ومنطقي يكشف عن حقيقة واحدة من زوايا متعددة. فعلى سبيل المثال، إذا شهد شاهد بأنه رأى المتهم في مكان الجريمة، وأكدت كاميرا المراقبة وجوده في ذات الموقع والتوقيت، وظهر على ملابسه أثر مادي مطابق لأداة الجريمة (مثل دم المجني عليه أو بصمات)، فإن هذه الأدلة تتساند فعليًا، لا لأنها متكررة أو متشابهة، بل لأنها تنطلق من مصادر مستقلة، وتلتقي في مضمونها على نحو يعزز الثقة في نتيجتها. فالشاهد يُعزز الكاميرا، والكاميرا تُعزز الأثر المادي، وكل منها يقوي الآخر دون أن يكون أحدها معيبًا في ذاته. هذا هو التساند الحقيقي: التقاء أدلة مستقلة في نقطة صدق مشتركة، دون أن يتكئ أي منها على ضعف الآخر، أو يحاول ستر عيوبه به. أما التساند الظاهري فهو أن تعتمد المحكمة على دليلين ظنيين، كتحريات غير مدعومة وشهادة سماعية، وتزعم أن تلاقيهما ينتج قوة، بينما الحقيقة أن اجتماع الضعف لا يُنتج قوة بل يُعمّق الشك.
التطبيق القضائي السليم لنظرية تساند الأدلة يقتضي ألا يُعتد بهذا التساند إلا إذا ثبت أن كل دليل منها يصلح، ولو بدرجة ما، لإفادة المحكمة بالطمأنينة، وأن اجتماعها لم يُضف فقط قوة عددية، بل أفضى إلى معنى نوعي يكشف عن الحقيقة. أما إذا كان التساند مجرد حيلة لاستكمال فراغات الأدلة، أو ستارًا لتجاوز ضعفها، فهو لا ينهض سندًا لأي إدانة عادلة.
غير أن التساند الحقيقي بين الأدلة لا يمكن قبوله متى كان أحدها صادرًا عن إجراء باطل في ذاته. فالبطلان الذي يشوب مجرى الدليل لا يقتصر أثره على هذا الدليل فحسب، بل ينعكس على مدى قبوله في منظومة التساند ككل. فإذا كان القبض على المتهم قد تم في مرحلة جمع الاستدلالات دون إذن من النيابة أو دون توافر حالة التلبس، فإن ما يترتب عليه من اعتراف أو دليل مادي يُعد باطلًا لمخالفته صريح القانون. ومع ذلك، إذا ما جرى استبعاد هذا الاعتراف الباطل، ثم أُعيد استجواب المتهم أمام المحكمة في جلسة علنية، وفي ظل ضمانات الدفاع والمواجهة، واعترف بمحض إرادته ووفقًا للإجراءات الصحيحة، فإن هذا الاعتراف الجديد يعد دليلًا قائمًا بذاته، مستقلًا في مجراه عن الإجراء الباطل السابق، ومن ثم يمكن أن يدخل في منظومة التساند. فالفارق الجوهري هنا أن الاعتراف أمام المحكمة لم يكن ثمرة مباشرة للإجراء الباطل، وإنما جاء منبتّ الصلة به من حيث الزمن والمكان والضمانات، ما يجعله صالحًا للدخول ضمن أدلة الإدانة المتساندة، بشرط أن يكون صادرًا عن إرادة حرة وفِي ظل رقابة القضاء.
ومن ثم فإن التوصية التي نخلص إليها هي ضرورة إخضاع نظرية تساند الأدلة لمعيار دقيق من الفحص المنطقي والقانوني، وعدم الاكتفاء بالمظهر الخارجي للتلاقي بين الأدلة. فالإدانة لا تُبنى على التكرار، بل على الحجية؛ ولا على الظن، بل على اليقين المستند إلى مصادر مشروعة وسليمة. وظيفة القاضي ليست تجميع الأدلة، بل اختبار صدقها واستقلالها، وتقدير قيمتها الحقيقية لا الشكلية. إن مسؤولية العدالة لا تتحقق بتكثير الظنون، بل بتحقيق اليقين المشروع، والفرق بين الاثنين هو الفرق بين إدانة عادلة وحكم قد يخلط بين الصورة والحقيقة. والله من وراء القصد.