مساءلة الموظف العام جنائياً لا يحول دون مساءلته تأديبياً
بقلم المستشار الدكتور / إسلام إحسان ـ نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية
فى أحيان كثيرة يرتكب الموظف العام جريمة جنائية تتولى النيابة العامة التحقيق فيها و إحالته إلى المحكمة الجنائية ، و فى ذات الوقت تقوم النيابة الإدارية بمباشرة التحقيق فى ذات الواقعة ، مما يثير التساؤل عما إذا كان ذلك يعد إزدواج فى الإجراءات القانونية المتخذة من كلتا الجهتين بحق الموظف العام ؟
من المستقر عليه فقهاً و قضاءً أن مباشرة النيابة الإدارية التحقيق فى ذات الوقائع و الجرائم التى حققت فيها النيابة العامة لا يعد إزداوج فى إتخاذ الإجراءات القانونية المتخذة بشأن الواقعة ، لإختلاف نطاق عمل كل من النيابتيين العامة و الإدارية عن بعضهما البعض ، إذ أن النيابة العامة تتولى التحقيق لتحديد المسئولية الجنائية عن الواقعة ، فى حين أن النيابة الإدارية تتولى التحقيق لتحديد المسئوليات التأديبية للموظفين العموميين و التى يتسع نطاقها لتشمل كل صور الإهمال الوظيفي و القصور فى أداء الواجبات الوظيفية ، و هى مسئولية مستقلة ومنبتة الصلة بالمسئولية الجنائية ، إذ يختلف النظامان التأديبي و الجنائي عن بعضهما إذ أن المخالفة التأديبية قوامها مخالفة الموظف واجبات وظيفته أو مقتضياتها أو كرامتها و تهدف للمحافظة على إنضباط سير العمل بالمرفق الحكومى ، بينما الجريمة الجنائية هي خروج المتهم على المجتمع فيما نهى عنه قانون العقوبات .
و لذلك لا يُسلب القضاءُ التأديبي و النيابة الإدارية اختصاصَهما بالنظر في تأديب الموظف إذا ما أسفر التحقيق عن وجود جريمة جنائية علاوة على المخالفة الإدارية ، كما يجوز قانوناً محاكمة الموظف تأديبياً بصرف النظر عما إذا تمت محاكمته جنائياً من عدمه ، كذا يجوز المبادرة إلى توقيع الجزاء التأديبي دون إنتظار إنتهاء المحاكمة الجنائية إذ لا إلزام على الجهة التأديبية فى أن تتريث حتى تنتهى إجراءات المساءلة الجنائية ، و توقيع العقوبة الجنائية على الموظف لا يمنع من توقيع الجزاء التأديبي عليه عن ذات الواقعة دون أن يعد ذلك إزدواجاً فى العقاب إذ أن عدم جواز العقاب على الفعل الواحد مرتين يقتصر على عدم جواز توقيع عقوبتين تنتميان لذات النوع من العقوبات ، فلا يجوز أن توقع على المتهم عقوبتيين جنائيتين أصليتين على الجريمة الواحدة، و لا يجوز توقيع جزائيين تأديبيين عن ذات المخالفة التأديبية.
و من آثار الاستقلال بين النظامين التأديبي و الجنائي أن كل ما يجري من تصرفات في النطاق الجنائي من تحريك الدعوى العمومية، أو صدور عفو عن الجريمة الجنائية المحكوم فيها أو عفو عن العقوبة، أو إنقضائها لتنازل المجنى عليه لا يقيد سلطات التأديب .
و قد أستقرت الأحكام القضائية على المبادىء القانونية الأتية فى هذا الصدد :-
أ ) استقلال النظام التأديبي عن النظام الجنائي ، إذ أن القانون التأديبي يعد قانونا قائما بذاته ، يجتمع النظامان التأديبي والجنائي في كون كل منهما نظاما للعقاب بغرض كفالة احترام قيم معينة للجماعة ، يتمثل استقلال نظام التأديب عن النظام الجنائي في استقلال المسئولية التأديبية عن المسئولية الجنائية ، وفي استقلال المخالفة التأديبية عن الجريمة الجنائية في الوصف وفي الأركان وفي التكييف القانوني، وفي دوران كل نظام للعقاب في فلكه بحيث إن ما يجري في أحد النظامين لا يؤثر في النظام الآخر، وفي القواعد الإجرائية التي تحيط إصدار الجزاء التأديبي. ( [1])
ب ) أوجه الإختلاف بين الجريمة الجنائية و المخالفة التأديبية إذ يختلف النظامان التأديبي و الجنائي فيما يلي ، أن المخالفة التأديبية أساسها تهمة قائمة بذاتها (مستقلة عن التهمة الجنائية)، قوامها مخالفة الموظف واجبات وظيفته أو مقتضياتها أو كرامتها، بينما الجريمة الجنائية هي خروج المتهم على المجتمع فيما نهى عنه قانون العقوبات ، الاستقلال قائم بينهما حتى ولو كان هناك ارتباط بين الجريمتين ، الاستقلال قائم بينهما في الوصف وفي الأركان وفي التكييف القانوني. ( [2] )
ج – إنطواء الفعل المؤثم على جريمة جنائية لا يغل يد سلطات التأديب عن مباشرة إختصاصاتها ، و على ذلك لا يُسلب القضاءُ التأديبي اختصاصَه بالنظر في تأديب الموظف إذا ما أسفر التحقيق عن وجود جريمة جنائية علاوة على المخالفة الإدارية التي ارتكبها والتي تتعلق بسلوكه الوظيفي. ( [3] )
د – العفو عن الجريمة أو العقوبة الجنائية لا يقيد سلطات التأديب ، إذ أن الاستقلال بين النظامين التأديبي و الجنائي في الإجراءات يعني أن كل ما يجري من تصرفات في النطاق الجنائي من تحريك الدعوى العمومية، أو صدور حكم فيها أو صدور عفو عن الجريمة المحكوم فيها أو عفو عن العقوبة، لا يقيد سلطات التأديب. ( [4] )
و – لا يجوز الرجوع لأركان الجريمة الجنائية فى قانون العقوبات لتأثيم المخالفة التأديبية ، إذ تلتزم السلطة التأديبية في تقديرها للجرائم التأديبية بضوابط الوظيفة العامة بما تتضمنه من حقوق وواجبات، فتقدير ما إذا كان الموظف قد أخطأ خطأ يستوجب الجزاء، يرجع فيه إلى هذه الحقوق والواجبات دون غيرها، فليس لسلطة التأديب أن تتقيد بضوابط قانون العقوبات. ( [5] )
[1] – ( المحكمة الإدارية العليا ، الطعن رقم 39372 لسنة 59 ق ع ، جلسة 7/6/2014)
[2] – ( المحكمة الإدارية العليا ، الطعن رقم 39372 لسنة 59 ق ع ، جلسة 7/6/2014)
[3] – ( المحكمة الإدارية العليا ، الطعن رقم 39372 لسنة 59 ق ع ، جلسة 7/6/2014)
[4] – ( المحكمة الإدارية العليا ، الطعن رقم 39372 لسنة 57 القضائية (عليا)، جلسة 7 من يونيه سنة 2014، مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها “دائرة توحيد المبادئ في ثلاثين عاما”، منذ إنشائها إلي نهاية أغسطس سنة 2015 ، مكتب فني – المبدأ 104/ أ )
[5] – ( المحكمة الإدارية العليا – الطعن رقم 23187 لسنة 60ق – جلسة 11/4/ 2015)