مسألة الروح في القرآن
مسألة الروح في القرآن
نشر بجريدة الشروق الخميس 11/2/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
أبرز ما في هذه المسألة، أن فهمها.. أو قل سرها ــ يعز على قدرة البشر.
وقد نبه القرآن إلى هذه الحقيقة في خطابه إلى رسول القرآن عليه الصلاة والسلام، بشأن ما وجهه يهود المدينة إليه من أسئلة للتعجيز !
يقول الحق تبارك وتعالى لخاتم أنبيائه ورسله ـ عليه الصلاة والسلام:
«وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً »(الإسراء 85)
يورى الأستاذ العقاد بهذه الآية في استهلاله لمسألة الروح ـ بأن العلم مهما اجتهد، فإنه دون أن يصل في أمر الروح إلى إجابة شافية، وقد ظلت مسألة الروح من أعضل مسائل العلم والفلسفة ومذاهب التفكير، وبين جميع أصحاب النحل والآراء، في جميع العصور.
وسواء فهمنا من الروح أنها جوهر مجرد تقوم به حياة الأجساد، أو فهمنا كما يفهم الماديون أنها ظاهرة الحياة في تركيبة من تراكيب المادة، إلاَّ أن العلم بحقيقتها لا يزال قليلاً بل أقل من القليل..
ومن معجزات القرآن أنه وضعها هذا الموضع الصحيح.. فهى أعضل المعضلات التي عجز العلم والفلسفة عن التعرف على كنهها، ولا تزال أعضل المعضلات التي يتساءل عنها الناس بغير استثناء..
ويأخذنا الأستاذ العقاد في جولة عريضة بين تساؤلات ومحاولات بعض المفسرين، ويخص منهم محاولة الإمام فخر الرازي، وبين محاولات المفكرين من الفلاسفة الأقدمين، وبخاصة علماء الكلام، وأقوال وتفاسير وتأويلات هؤلاء وأولاء، وبين محاولات المفكرين المحدثين التي دارت في جملتها بين قولين: قول بنشوء الحياة من جوهر مجرد، وقول آخر بنشوئها من استعداد في المادة يظهر مع التطور والتركيب.. ويناقش الأستاذ العقاد آراء كل هؤلاء وأدلتهم، وفروضهم.. لينتقل منهم إلى الماديين وما تأولوه من نشأة الحياة من المادة، وما يقعون فيه من تناقض، ودون أن يذكروا دليلاً واحدًا على « حدوث الحياة » من مثل التركيب الذي يزعمونه، ليق في بأنه إذا كان الماديون قد بلغوا بتجريد قوة الحياة أقصى ما يستطيعه المادي من صفات التجريد، فإن هذا القول بالتجريد المطلق لم يفسر الغامض ولم يقطع الكلام في مسألة الروح، ولم تكن محاولات الفلاسفة بأجدى من محاولات الماديين، وكذلك حال الماديين الذين توسطوا بين المجردين والمجسدين، وعندهم أن وجود الروح لاحق لوجود الجسد، ولكنهم عجزوا على الجملة في تفسير كيف دبّت الروح في هذا الجسد، وما جوهرها.. وليخلص الأستاذ العقاد من هذه الجولة التي فحص أدلتها وآراءها وفندها، إلا أنها جميعًا لم تقدم جوابًا شافيًا في مسألة الروح.
* * *
ولا يفرغ الأستاذ العقاد من جولته دون أن يعطف على أحاديث القائلين بتحضير الأرواح، وما يتوارد بشأنها من أسئلة.. هل السيطرة على الروح مسألة قدسية إلهية ؟ أو هي مسألة آلية صناعية ؟
فإن كانت قدسية إلهية، فما هذه الآلات والأشعة والمصورات والمحركات التي يلجأون إليها في التحضير ؟! وما هذا الارتباط بين تحضير الأرواح الحديث والمخترعات الحديثة ؟ وما لهذه السيطرة على الأرواح القدسية بسلطان تلك الآلات والمخترعات في أيدى قد لا تعرف القداسة ولا تؤمن بها ؟!..
وإن كانت الأرواح آلية صناعية، فأي تغليب للمادة على الروح أقوى من هذا التغليب الذي ينوط كشف الأرواح بتقدم الصناعات والمخترعات، ويجعل عالم الروح كعالم المادة تابعًا لآلة تدار أو مخترع جديد لم يكن معروفًا قبل قرن من الزمان ؟ وكيف نفسر أن عالم الروح كله لم يستطع بجهوده وبواعثه أن يَنْفُذ إلى عالم المادة ؟.. بينما استطاع عالم المادة أن ينفذ ببعض الأجهزة إلى عالم الروح ؟ وهل سعت الأرواح إلينا أصلاً فعجزت في مسعاها ؟ أو هي لم تسع قط ونحن الذين أرغمناها على الظهور لنا والتحدث إلينا ؟! وما معنى قدرتنا وعجزها هى في هذه الجهود التي لا قوة لنا فيها لغير أدوات وأجهزة التحضير ؟!
والروح عممت في القرآن ـ فيما يلاحظ الأستاذ العقاد ـ إلى أوسع من المعنى الذي خصصناها به والذي يقصد به قوام الحياة في الشخصية الإنسانية.. ومن تعميم القرآن لمعنى الروح أنه سُمِّى جبريل عليه السلام بالروح الأمين.. ونسبت روح إلى الله بمعنى الرحمة تارة، وبمعنى القوة أو الحياة تارة، وبمعنى العلم القدسي في غير هذه المواضع..
« رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ » (غافر 15)
« وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا » (الشورى52)
« فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا » (مريم 17)
« فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا » (الأنبياء 91 )
« ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ » (السجدة 9 )
« فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ » (الحجر 29، ص 72)
وبهذه المعانى ترتفع الروح من الوجود المادى إلى الوجود المنزّه عن المادة وخصائصها،
وقد تلحق بالوجود الإلهى الذي لا شبيه له في الموجودات، سبحانه المثل الأعلى، وليس كمثله شىء..
يتوقف الأستاذ العقاد ليقر بأنه لم يقدم سوى السرد، وأن هذا السرد كافٍ بذاته لبيان إعجاز القرآن في وضع هذه المعضلة في موضعها الصحيح، والذي أعجز الفلسفة الكبرى وجميع المذاهب في كل الأزمان..
لن يستطيع العالِم أو الأمِّى، أن يعلم من أمر الروح إلاَّ بوحى من الله عز وجل.. وهذا هو فصل الخطاب في مسألة الروح التي قال فيها الحق سبحانه وتعالى لنبيه المصط في عليه
الصلاة والسلام: « وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً » ( الإسراء 85 ). صدق الله العظيم.
القدر
الإيمان بالقدر ـ فيما يبدى الأستاذ العقاد ـ قديم ملازم للإيمان بالمعبود منذ أقدم العصور.
فمن قبل الأديان الكتابية، وقبل الأديان الكبرى ـ غير الكتابية ـ التي آمنت بها أمم الحضارة في العصور القديمة، والإنسان في جهالته الأولى يؤمن بالأرباب والأرواح، ويعبدها لأنه يعتقد أنها تتصرف في شئونه، وتتدخل بإرادته فيما يحب وما يكره، وفيما يريد وما لا يريد.
ولم يجهل في جهالته الأولى أن هناك قوى تتحكم في حريته و في إرادته، وفيما يصادفه فيتحقق أو لا يتحقق، أو ما ينتظره من مطر فلا يسقط، أو ما يتمناه فيخيب..
وكان هذا هو القدر في معناه الساذج القديم..
ولكنه قدر لا يستلزم في خلد الهمجى الأول نظامًا مرسومًا لتدبير الأكوان، ولا خطة مقررة لتوجيه الإنسان.. وكل ما كان يستلزمه فهمه للقدر أنه سيطرة مرهوبة تملك الإنعام والحرمان. وربما خطر له أن الأرباب أو الأرواح التي يعبدها قد يحلو لها تخويفه أو إذلاله في اعتزازها بقوتها عليه.
وعندما أدرك الإنسان شيئًا من نظام الأكوان، ترقى بالقدر في مفهومه من معنى الهوى الجامح إلى معنى التنظيم والتدبير.. وكان الهنود الأقدمون يؤمنون بسيطرة « الكارما » أو القدر على الزمان والمكان، وأنه يعيد الكون مرة بعد مرة على نظام واحد يتكرر فيه كل موجود من أكبر الكواكب إلى أصغر دقائق الأجسام، وأنه لا حيلة للقدر نفسه في تغيير شىء من ذلك لأنه لا يعي ما يفعل.
ولأن البابليين كانوا أصحاب نجوم وأرصاد، فإنهم فهموا القدر على ما يظهر من طريق الإيمان بالتنجيم. لأنهم آمنوا بسيطرة الكواكب على مقادير الأحياء وغير الأحياء.
* * *
ومن الراجح جدا أن القول « بالثنوية » ـ أو نسبة أقدار الوجود إلى مشيئة ربين اثنين، إنما كان حلاًّ ارتآه حكماء المجوس الأقدمين لمشكلة القدر، وذلك بعد أن بلغوا بصفات الإله الأكبر مبلغًا لا يوافق إرادة النقص ولا إرادة الشقاء.. فجعلوا تقدير الخير لإله، وتقدير الشر لإله، وقسموا العالم شطرين بين النور والظلام، وبين الإيجاد والإفناء.
أما المصريون الأقدمون فكانوا وسطًا بين الإيمان بحرية الإنسان والإيمان بسيطرة الأرباب، لأنهم آمنوا بالثواب والعقاب في العالم الآخر..