مخاطر المصدقات الخالية من الصدق
مخاطر المصدقات الخالية من الصدق
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 1 / 5 / 2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
أخطر ما يصيب « الصدق » في المجتمعات، ما يسمى بالمصدقات الشعبية التي تتسلل عبر الأزمان، إلى نفوس الناس، عبر روافد متعددة، لتتراكم وتتحول مع الأيام إلى ما يشبه الكتلة الصماء خصوصًا إذا ما التصقت بالأديان ودخلت ضمن التقاليد الدينية.. هنالك تتحوصل المصدقات الشعبية وتنشب في نفوس الناس حتى لتكاد تزاحم العقيدة ذاتها، فتأخذ الناس ـ وهى تتشح بالصدق ! ـ بعيدًا عن أي صدق !!!
إن « المصدقات » ـ العارية من الصدق، عديدة متنوعـة، لـم تترك مجالاً إلاّ تسللت إليه.. هي من الكثرة والتنوع بحيث يصعب حصرها، وأصعب من ذلك تنقية الدين أو غيره منها، لأنها تتحوصل مع الزمن وتتحكم في وعى الناس وتتحول إلى « عقيدة » قد يبتعد أثر بعضها باتساع الثقافة ونمو الوعى، إلاّ أنه يصعب مقاومة هذه « المصدقات » مقاومـة مباشـرة بالمنع أو النهى، لأن ذلك يشوش ضمائر عامة الناس، وربما يدعوهم لشيوع « المصدقة » ( الكاذبة ) والإصرار على إتباعها، ويفتح أبوابًا لتصدر المتعصبين ثـم ينتهى الأمر إلى نقيض « التنوير » المنشود، وتتحول « المصدقات الشعبية » إلى مرتبة المقدسات لدى سواد الناس!
ومع أن انتشار العلم، وشيوع الأخذ بأسبابه، يحاصر « المصدقات الشعبية » ( الكاذبة ) ـ فإنها قد تتسلل ـ برغم اتساع العلم ـ من أبواب أخرى لا تكف العناصر المحبذة لها عن تكريس تأثيرها على عامة الناس.. فالصناعات والتجارات والحـرف، والترويج لهـا أو الإعلان عنها ـ يستغل ومن قديم الزمن هذه « المصدقات الشعبية » لتحقيق هذا الترويج، سواء بخلق مناسبات هذه « المصدقات »، أو بتشجيع هذه « المناسبات »، وتغذيتها بالأدوات أو السلع أو الاحتفال والتسلية والأسواق، والدعاية لها، واتخاذها سبيلاً لجذب الناس ورواج أحوال من يتكسبون من ذيوع وانتشار « المصدقة » ومناسبتها، وكثيرًا ما نشأت الأحياء والمدن، والمعابد والمزارات، وطرق المواصلات بفضل شيوع بعض المصدقات وتجمعات معتقديها وضخامة ما ينفقونه من أجلها، لا يبخلون عليها بما ربما بخلوا به على أهلهم وأمس حاجاتهم !!!
ومـع تراجـع الثقافـة، وانحسـار العقـل ـ تزحـف « المصدقات الشعبية »، على ما فيها من مجافاة الصدق كزحف الرمال المتحركة، فتملأ وعى ووجدان الناس بترهات تشدها إلى أسفل، وتطفئ نور الله في قلوبها، وتخبو بالعقل، وتغلق طاقات الأمل في الخروج من وهدة ما هم فيه من شتات وضياع وانطفاء، وتجعل صناعة الجهل أسلوبًا وغاية، فتفقد الأمة روحها مع عقلها، وتضيع في شتات ليل بهيم حالك السواد كئيب القتامة !!!
أينما نظر المتأمل، في تواريخ وأحوال الناس، الماضيـة والحاضـرة ـ تطالعـه مظـاهر لا تحصى لهـذه « المصدقات الشعبية » والأوهام التي تتسع من حولها، آخذة الناس بعيدًا بعيدًا عن « الصدق » نفسه، وعن الفهم والعقل، وعن اتخاذ الأسباب، يغذى ذلك جهل وجهالة المتلقين، ومنهم للأسف علمـاء أفـذاذ في تخصصاتهم، وسذاجة أو سوء نية الداعين المحبذين لـرواج هـذه « المصدقات »، التي بقدر انتشارها وتمكنها من طبائع الناس، بقدر ما تبتعد بهم عن الائتلاف مع قانون العصر الذى لم يعد فيه مكان للتهاويم والخزعبلات !!!
قد عرف الآدميون من قديم، فضل وقيمة الانتفاع بالعقل في رحلة الحياة، وعرفوا بالعقل قيمة وجدوى الاستقامة، مثلما خافوا به من أخطار ومغبات الخروج عليها، وبهذا العقل اهتدوا إلى مسئولية الإنسان عن أفعاله، وضرورة هذه المسئولية والإحساس القوى الفطن بها وبلزومها لضبط وقيادة خطوات البشرية، وتحسس طريقها بشعور جاد من الالتفات والتيقظ للأخطار والمخاوف والعقبات، والتعلق الواعي بحبل الأمل والرجاء في قابل أفضل وأجمل وأرشد.