محاولة للفهم (5)
من تراب الطريق (1016)
محاولة للفهم (5)
نشر بجريدة المال الاثنين 11/1/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
عرف الإنسان، من واقع البحوث والمراصد الفلكية، وارتياد القضاء، وخرائط الكون والقبة السماوية، أن كوكب الأرض لا يبدو من وراء أبعد الكواكب في المنظومة الكونية سوى نقطة زرقاء باهتة ضائعة تقريبا في خلفية من نجوم متناثرة.. قد عرفنا الآن يقينًا ـ أن الأرض بما عليها ليست إلاّ كوكبًا متواضعًا بين بلايين المجرات بما تحويه كل منها من بلايين الشموس والأقمار والكواكب والنجوم التي لا يحصرها العد، ومن بينها عديد العديد مما تتبعه توابع.. لقد أدت هذه الكشوف الهائلة إلى ثراء قدرة البشر وطاقتهم على التصور، واتساع مداركهم وعقولهم عما كانت عليه في الزمن الماضي، وخرجت فكرة جدودنا عن الخالق جل وعلا إلى ميادين فسيحة تتسق مع مزيد المزيد الذي رأيناه من واقع هذه الكشوف وارتياد الفضاء من العظمة الهائلة للكون وخالقه جل وعلا.. كان ما مع جدودنا فهم نسبى بالنسبة إليهم هم وأحوالهم وما يتعرضون له من التقدم أو التأخر وما يصبون إليه من لوامع الحقيقة أو غيابات الخيال وأوهامـه وأحلامـه. بينما في عصرنا فقدت كرة الأرض شموخها الماضي، وبانت لكل متعلم تتلقى من العلوم الوضعية ضآلتها في الكون الهائل العظيم، ويدرك البشر عليها أن الخلاق جل وعلا ـ قد خلقها ضمن ما خلق من ذلك الكون كما خلق من عليها من أحياء من ضمنها البشر وتشمل نعمه ورحماته الجميع كل بما يستحقه !.. ورغم اعتداد الإنسان بهذا الإنجاز وباختراقه عوالم الفضاء، إلا أن هذا أدى بصورة أو بأخرى إلى سؤال عالق عن قيمة كوكب الأرض فيما حوله في هذا الكون العظيم من بلايين المجرات والشموس والكواكب والنجوم، وأخذ هذا كله كثيرًا من علياء واعتداد أهل الأرض، وجرهم مع ما كشفت عنه العلوم الوضعية إلى كثير من التواضع أو خفوت ما كان يلابسهم من تعالٍ وجهل بالكون الذي استبان أن الأرض محض كوكب بالغ الصغر والضآلة من كواكبه الكثيرة الهائلة التي لا يزال الإنسان جاهلا بمعظمها لا يعرف عنها إلاّ القليل الذي أدهشه ويجهل الكثير الذي يبهره ويخافت بصورة أو بأخرى من عليائه واعتداده بأنه سيد الكون !!.. لا تعدم بين الناس الآن، أيًّا كان نصيبهم من الدين، من يتساءل : هل نحن البشر إلاّ كمٌّ هينٌ، وغشاء رقيق من الحياة فوق كتلة غامضة ومنعزلة من الصخر والمعدن في كون هائل ـ انفسح أمامهم على عوالم لم تكن في حسبان أحد من أجدادنا ؟! هل من الممكن إهمال هذه التصورات والتساؤلات لخطاب الدين الذي ينبغي أن يغطى كل لوامع ما يطوف بالناس من حيرة وتساؤل وشوق إلى مزيد من المعرفة والفهم ؟!
هذا وكلما ينسى الآدمي تمامًا أنانيته وتفضيله لنفسه ومن هم في حكم نفسه على سواه، مكنته ظروفه من ذلك. لكن استرسال الآدمي في تضخيم أنانيته يعود عليه في الأغلب الأعم من الأذى بما لا يتوقعه حتى من الأقربين.. وهذا الاسترسال سريع العدوى في المحيط إن لم يقاوم ويقمع فينقل من محيط إلى محيط ويعم الأغنياء والفقراء معًا سعار الأثرة والشره والقسوة واللا مبالاة.. وعندئذٍ ينسى الناس العواطف الجـادة والتآخي وحرص الأفراد على حماية الجماعة والدفاع الفعلي عنها والاعتزاز بالانتماء إليها !
وربما قد ضمن بقاء الجماعات البشرية إلى يومنا ما بقى لديها من التقاليد والعقائد التي تلزم الموسر بالمعونة والعطف على القريب الضعيف وعلى الأتباع وعلى من يجد في طريقه أو يسمع عنه من المحتاج.. الظاهر الاحتياج أو غير الظاهر !