محاماة بلا لغة
بقلم: أستاذ/ محمود سلامة
يتحير عقلي كلما هممتُ بالكتابة عن اللغة العربية، وهي البحر المحيط الذي لا أعلم من أين أبدأ في الحديث عنه وكل اتجاهاتها صالحة للبدء منها بالتناول، وربما هذه المرة لم أقرر أن أتحدث عن قواعدها أو فلسفتها أو منطقها على نحوٍ منفصلٍ، ولكنني هممتُ أن أتناولها من أحد أبوابها الجليلة، المحاماة.
منذ أن ارتبطت بالمحاماة درويشًا بساحتها ومتيمًا بسحرها، وأنا مرتبطٌ بها من جلالِ المقالِ في المرافعةِ وفنونها كما تيمت بالشعرِ منذ نعومةِ أظافري، وكان بابي للغة والشعر أمي، وكانت شاعرةً وكنتُ جمهورها الوحيد. فتنتني الأفلامُ القديمةُ التي حوت في مشاهدها مرافعات لممثلينَ عظماء أدوا دور المحامي في الرواية السينمائية على نحوٍ لا أقبل معه أن أستمع لمرافعةٍ حقيقيةٍ بمستوى لغويٍّ أقل مما عهدته منهم انتهاءً بمرافعةِ الأسطورة العبقرية والحالة الفريدة في تاريخ السينما المصرية الفنان المرحوم/ أحمد زكي في فيلمه العظيم ضد الحكومة، والذي شهدتُ به كيف أن الحق –ومنه حق الدفاع- يغيرُ في الحقيقةِ مسار المحامي من ضياعٍ إلى هدى يكسبه في الحقيقة جرأة وشجاعةً قوامها الكلمة البليغة المتشحة بوشاح الحق والعدل.
ولكن هل الواقع كذلك؟ كنتُ أظنُّهُ كذلك حتى قررتُ أن أحضر أولى مرَّاتي مستمعًا بمحكمة الجنايات، وكنتُ حينها طالبًا بالفرقةِ الثانية بكلية الحقوق بجامعة عين شمس.
ذهبتُ مستعدًا لأتزود من سحر البلاغةِ الدفاعية بحججها القوية ولغتها الساحرة بين حركاتِ الجسدِ المتكلمة وفصاحةِ اللسانِ. كنتُ أظنُّ أنني سأجد منيتي التي نشدتها ضالةً أيقنتُ أني ساجدها في ساحة محكمة الجناياتِ.
الشعر الأبيض، والأعوام الطويلة من الخبرة والحنكة، والممارسة التي تتكشف بتكرارها الخبايا وتعرف بها الأسرار. ولكن لم أجد يومها إلا الشعرَ الأبيضَ والعلم نعم، ولكن بعاميةٍ ليست ترقى إلا ببعض المصطلحات القانونية التي رجعت لأسأل عن معناها وفحواها.
لم أجد اللغة هناكَ، ولم أعرف أين أجدها. ولم يقف بحثي عن اللغة المتشحة بروب المحاماة المقدس، فرحت أبحثُ عنها في الكتبِ بعد فترةٍ، ويا لهول ما قرأت، منصوبُ يرفع، ومجرورٌ يجزم، ومنوع من الصرف يصرف على غير أصله، وفقرٍ لغويٍ شديدٍ لم أنج منه إلا بالكتب العظيمة على غرار ما يؤلفه العلامة الدكتور أحمد فتحي سرور والعلامة المرصفاوي والعلامة محمود نجيب حسني ومن على دربهم من أشاوس الفقه القانوني انتهاءً بكتابِ رسالةِ المحاماة للفقيه العلامة أستاذ الأجيال رجائي عطية المحامي بالنقض.
فلم يخب لي أملٌ، وأصررتُ على ألا أكون من عوام المحاماة، فاهتممتُ بلغة القانون، وقويت فصحاي، لا استعراضًا وإنما إيمانًا بأنه لا محاماة بغير لغةٍ عربيةٍ قويةٍ لا تنسى عربية المصطلح أو اصطلاحية العربية.
وكان الكثيرُ من زملائي يسخرون –ولأسفٍ- من اهتمامي باللغةِ العربية، وهو الأمر الذي رأيتهم فيه مساكين تائهين أعداء ما يجهلون. ودعمني في سبيلي ما قرأتُ من حديث عمر بن الخطاب لقومٍ يلحنون في اللغة قد نصبوا المرفوع وطاشت لغتهم لأعجميتهم البغيضةِ، فكيف كان العربُ يقدسونَ لغتهم. فمن تكلم بعربية سليمةٍ ممدوحٌ كلما بلغ بلاغة القول، ومن لحن في اللغة مستهجنٌ مذموم.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله في معرض حديثه عن الابتداع في الدين ” ما جهل الناس، ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب “، وقال الحسن البصري -رحمه الله-في المبتدعة ” أهلكتهم العجمة “. والعجمةُ هي الحديث بأعجمية، أي بعربية غير سليمةٍ حادت عن جهةِ اللسان العربي السليم.
وقد دخل أحد الأعراب إلى سوقٍ فوجد التجار (يلحنون) فقال مستغربًا: سبحان الله يلحنون ويكسبون!.
وقد قال أحد الشعراء:
ويُعْجِبُنِي زيُّ الفتى وجَمَالِهِ .. ويَسْقُطُ مِنْ عينيَّ ساعةَ يلحنُ.
وقال آخر:
لَحْنُ الشَّرِيفِ يُزِيلُهُ عَنْ قَدْرِهِ .. وَتَرَاهُ يَسْقُطُ مِنْ لِحَاظِ الأَعْيُنِ.
وقد قال سعيد بن سلم –رحمه الله- “دخلتُ على الرشيد، فبهرني هيبةً وجمالًا، فلمَّا لَحَنَ خفَّ في عيني.
وقد قرأت من “معجم الأدباء”؛ للحمَوي، عن الخليل بن أحمد، أنَّهُ قال: سمعتُ أيوب السختياني يُحَدِّثُ بحديثٍ، فلحن فيه، فقال: أستغفر الله؛ دلالةَ على أنه رأى اللَّحْنَ ذنبًا.
وقال ابن فارس في كتابه “الصاحبي في فقه اللغة”: وقد كان الناسُ قديمًا يجتنبون اللحْنَ فيما يكتبونه، أو يقرؤونه اجتنابهم بعض الذنوب.
وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفِه، والخطيبِ البغداديِّ في كتابه (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) عن ابن عمر، وابن عباس – رضي الله عنهم – أنهما كانا يضربان أولادهما على اللحن.
وفي “معجم الأدباء”؛ للحمَوي، قال: وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يضرب أولاده على اللحن.
وقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه – أنَّهُ مرَّ على قوم يسيئون الرمي، فقرعهم، فقالوا: إنا قوم (متعلِّمين)، فأعرض مغضبًا، وقال: والله لَخَطَؤُكم في لسانكم أشدُّ عليَّ مِن خطئِكم في رمْيكم.
وقد قدم أعرابي في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -قال: مَن يُقرئني شيئًا مما أنزل الله تعالى على محمد -صلى الله عليه وسلم؟ فأقرأه رجلٌ سورة (براءة)، فقال: ﴿ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ ﴾ بجرِّ حرفِ اللام في كلمةِ رسوله، فقال الأعرابي: أَوَقَد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله تعالى برِئ مِن رسوله، فأنا أبْرأ منه.
فبلغ عمرَ -رضي الله عنه -مقالة الأعرابي: فدعاه، فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنِّي قدِمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت مَن يقرئني؟ فأقرأني هذا سورة “براءة”، فقال:﴿ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ ﴾، فقلتُ: أوَقَد برئ الله تعالى من رسوله؟ إن يكنِ الله تعالى برِئ من رسوله، فأنا أبرأ منه.
فلا مجالَ للقولِ بأن المعنى واصلٌ لسماعِ المحكمةِ ووجدانها إن كان المترافعُ يلحنُ في القولِ، وحتى وإن كان كذلكَ فإن اللحنَ جريمةٌ تسقطُ المتكلمِ او الكاتبِ من عينِ الفاهمينَ وإن لم تكن المحكمةُ ذاتَ لغةٍ فتتجاوزُ عن لحنٍ لا تعلمُ به لضعفٍ باللغةِ. ولا أخشى قولتي بأن اللغة أصبحت –ولأسفِ شديدٍ-أهون على أهل القانونِ من سواهم.
فالحقيقة أن من يلحن في القول والكتابةِ إنما هو جاهلٌ لا يحسنُ القراءةَ أيضًا، فكيف يفهم المرادَ إن جهل المعنى، وجهله بالمعنى من جهله باللغةِ، فليس المنصوبُ يؤدي معنى المرفوع، فإن كان لا فرق فلا نصبَ ولا رفعَ ولا لزومَ للغةِ بالأساسِ.
وهل يلحنُ المحامون المتحدثون باللغةِ الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية؟ لا بالطبعِ، فإنهم من أولي اللغةِ لا يلحنون فيها ولا يميدون عن جادة صوابها، وإنما هانت علينا اللغةُ، فصرنا عوامًا في مرافعتنا، أنصاف متعلمين في مذكراتنا وعرائضنا على النحو المخجلِ أمام محاميِّ الدولِ العربيةِ، بل والأجنبية الذينَ يترجمونَ كلما لزم ما نكتبُ، فيكونُ المعنى مختلفًا بترجمته، لأن الترجمةَ تعتمدُ على سلامةِ اللغةِ الأصلية.
وإن من أمنياتي أن تكون اللغة العربية مادةً أساسيةً لدارسي القانونِ، واختباراتها معيارًا للقبولِ في الوظائف القضائيةِ والنيابية العامةِ، وكذا معيارًا رئيسًا لقبول المتقدمين للانتساب لمهنةِ المحاماة الجليلةِ التي هي في حقيقتها رسالة حق الدفاع.
والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا.