مبحث من موسوعة الضبط من الكتاب الثاني “الضبط الإداري”
بقلم: محمود سلامة
موسوعة الضبط
المجلد الثاني: الضبط الإداري وأعمال رجال السلطة العامة
المبحث الخامس: النظام العام والغائية العصرية للضبط الإداري:
المطلب الأول: تعريف النظام العام
إن النظام العام كفكرة يمتاز بالمرونة والتطور والحداثة على النحو الذي يصعب معه تحديد تعريف له، فقد استعصى على الفقهاء تعريفه تعريفًا جامعًا شاملًا، فظل للآن مكتنفًا بالغموض، والذي يعتبره الكثير من الفقهاء من أسرار عظمة النظام العام. ففكرة النظام العام نسبية مرنة تعبر عن الأسس الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية للمجتمع، وهي التي قد يجري عليها التغير بتغير ظروف المجتمع ذاته ومتطلباته، بل وما تفرضه عليه التحالفات والمعاهدات الدولية.
ورغم ذلك فإن الفقهاء والباحثين لا يزالون يجتهدون في وضع تعريف له، متخذين من المعيار المعنوي سبيلًا لذلك، وكذلك ما ظل ثابتًا من المظاهر المادية منذ ظهور فكرة النظام العام كبابٍ من أبواب البحثِ الأكاديمي.
والنظام العام في أبسط صوره ممتدٌ في عمق البشرية منذ نشأة المجتمعات، فهو روح المجتمع ونظامه المعلن والمعروف، ولم يكن في يومٍ ما مكتوبًا، وإنما ما كتب اعتبارًا بأنه من النظام العام كان تدوينًا قانونيًا لاعتبار أمور بعينها من النظام العام.
والنظام العام أخذ في الاتساع عن مفهومه التقليدي الذي كان يعني الأمن العام والصحة العامة والسكينة العامة، والتي كانت الأهداف العامة الرئيسية للدولة بجانب التعليم، ليشمل عناصر جديدة آخذة في التطور كالعناصر المتعلقة بالجانب الاقتصادي والجمالي للمدن والكرامة الإنسانية على النحو الذي يتبين منه مدى ارتباطه بغايات المجتمع والدولة، تعداها إلى أغراض أكثر حداثة وعصرية توافق وتواكب متطلبات المجتمعات وبالأخص بعد أن بدأت فكرة الاخلاق والفوارق المجتمعية فيها بالذوبان مع زيادة تطور الاتصال بين المجتمعات واختلاط الثقافات على نطاق واسعٍ.
ونستطيع أن نقول أنه أسس المجتمع التي يقوم عليها، وقد انتهى مجموع ما ناظرناه بحثًا إلى أنه ظاهرة قانونية واجتماعية تعبر عن روح النظام القانوني لجماعة ما. أو أنه مجموعة من القواعد قابلة للتطور والتجدد تعبر عن روح النظام القانوني للمجتمع على النحو الذي يلبي حاجاته ورغباته ويتوافق مع معتقداته وثوابته ومتغيراته على النحو الذي يضمن وحدة المجتمع وسلامته وسلامة أراضيه.
المطلب الثاني: خصائص النظام العام والآداب العامة
تلك الخصائص التي يعرف بها النظام العام وما هو متعلق به في ظل المعيار المعنوي والشكلي. فيمتاز النظام العام بالخصائص الآتية:
أولًا: النظام العام قواعد آمرة ملزمة
أي يجب على كافة المخاطبين بها الالتزام التام بها على قدم المساواة أفرادًا وإدارةً، وكل تصرف يخالفها باطلٌ بطلانًا مطلقًا لا يرتب آثارًا قانونية. وهدف ذلك الحفاظ على المبادئ والمثل العليا للمجتمع.
فعلى مستوى القانون الخاص يجب على المتعاقدين مراعاة النظام العام وعدم مخالفته، وإلا قوبل التصرف ببطلانه. وعلى مستوى القانون العام فإن هذه القواعد تتجلى كقيد على الإرادة وحريات الأفراد أحيانًا، وقد تؤدي لتوسيع سلطات الإدارة في أحايين أخرى. فإضفاء صفة الإلزام على فكرة النظام العام، يرجع لإقامة الموازنة بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع وتغليب الأخيرة على الأولى عند التعارض بينهما.
ومن صور الإلزام لهذه القواعد التزام القاضي بتطبيقها من تلقاء نفسه ولو لم يطلب الخصوم.
ثانيًا: النظام العام قواعد مرنة ومتطورة.
فهي ليست قواعد قانونية جامدة، بل هي متطورة وواسعة المدلول. فالمشرع يقتصر دوره على بيان مضمونها تاركًا تحديد التصرفات التي تتعلق بالنظام العام وما لا يتعلق إلى رأي الفقه وأحكام القضاء فيما نسميه الفقه القضائي.
ويختلف مضمون النظام العام باختلاف مكانه وزمانه، فما يعد من قبيل النظام العام أو من المسائل المتعلقة به في دولة لا يعد كذلك في دولةٍ أخرى، وما يعد في عصرنا هذا من النظام العام قد لا يعد بعد مائة سنة كذلك. فالنظام العام بطبيعته تعبيرًا جليًا لأسس المجتمع وهي القابلة للتطور والتغيير.
وفي ذلك قال الفقيه القانوني الدكتور عبد الرزاق السنهوري رحمة الله عليه *”لا نستطيع أن نحصر النظام العام في دائرة دون أخرى، فهو شيء متغير، يضيق ويتسع حسب ما يعد في حضارة معينة مصلحة عامة، ولا توجد قاعدة ثابتة تحدد النظام العام تحديدًا مطلقًا يتماشى مع كل زمان ومكان، لأن النظام العام شيء نسبي، وكل ما نستطيع هو أن نضع معيارًا مرنًا يكون معيار المصلحة العامة وتطبيق هذا المعيار في حضارة معينة يؤدي الى نتائج غير التي نصل إليها في حضارة أخرى” د.عبد الرزاق احمد السنهوري: الوسيط في شرح القانون المدني الجديد ، ج1، مصادر الالتزام، دار النشر للجامعات المصرية، 1952، ص399
ثالثًا: النظام العام بناءٌ تشاركيٌّ.
إن من أبرز خصائص النظام العام عدم انفراد السلطة التشريعية بتحديده، وإنما يعتبر دور المشرع في النظام العام هو الصياغة بعد أن يبنيه المجتمع. فتقاليد المجتمع والعرف السائد فيه الدور الأكبر في تشكيل فكرة النظام العام الخاص بهذا المجتمع، ويكون ذلك ترجمةً بالغةَ الدقة لما يقبله أو ينكره أفراده والذي يستمد منهم النظام العام خاصيته الإلزامية.
وليس أفراد المجتمع وحدهم هم من يبنون ويشكلون النظام العام، وإنما للفقه القضائي وأحكام القضاء دورًا عظيمًا في هذا الصدد، فتلتقي بذلك الأعراف والتقاليد مع الوعي الفقهي ومهارات التحليل والاستنتاج في ظل روح القانون بحيث لا يبتعد القاضي بتحليله واستنتاجه خارج فلك الأعراف والتقاليد وما يقبله الأفراد وما ينكرونه.
رابعًا: يمتاز النظام العام بالعمومية والحماية العمومية.
فإن النظام العام يعالج الحفاظ على المبادئ والأسس التي يتشكل على أساسها المجتمع بكافة أطيافه، فالمساس به مساس بالمجتمع ذاته حتى وإن كان الضرر الحاصل من ذلك واقعًا على أحد أفراد المجتمع دون باقي أفراده.
ويمتاز النظام العام بالعمومية نظرًا لتولي جهات الضبط الإداري مهمة حمايته، فيكون هو المبرر الأكبر والأعظم لتقييد بعض حريات الأفراد العامة فرادى أو جماعات. ولا يعتبر كل قيد وارد على حرية أحد الأفراد بعينهم مبرره النظام العام لمجرد اتخاذ سلطات الضبط الإداري من الإجراءات ما يغير من مركزه القانوني مع تساويه في مركزه الأصلي مع العديد من مماثليه، وفي حكم لها قضت المحكمة الإدارية العليا بأنَّهُ و “لئن كان حظر تشغيل المطحنة ليلًا لا يعدو كونه مجرد تنظيم حتى لا يسبب تشغيلها في هذا الوقت قلقًا وإزعاجًا للسكان، إلا إن المحكمة تسارع إلى التنبيه على أن مثل هذا التنظيم يجب أن يصدر بشكل قرار عام يسري على المطاحن كافة… أما أن يقيد مطحنة بذاتها ليحظر عليها التشغيل ليلًا بقرار فردي قبل أن يكون مسبوقًا بهذا التنظيم العام الذي يسري على الكافة فيما لو حدد، ففيه مجاوزة للسلطة…” قرار 79 في 16/4/1960، اورده د. عبد الرؤوف هاشم محمد بسيوني في مؤلفه “نظرية الضبط الإداري في النظم الوضعية المعاصرة وفي الشريعة الإسلامية.
فيجب أن تكون القاعدة الآمرة الملزمة عن مسألة تعتبر من النظام العام أن تكون عامة تخاطب الكافة على قدم المساواة.
يتبع إن شاء الله.