ما لا يقتلك يقويك

 

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 20/7/2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

أينما طاف الباحث في حاضر وتاريخ الإنسانية، ألفى أفذاذًا ذوي عاهات، ولدوا بها أو لحقت بهم في الطفولة أو أول الصبا.. كما يرى أفذاذًا قست عليهم الحياة من منشئهم، منهم من ذاق مرارة اليتم، أو عانى الفقر، أو تفتت العائلة والدفع به إلى المجهول.. يشدك في هذا التجوال مشهد رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، ولد يتيم الأب، ولحقت به الأم وهو في السادسة، ولحق بهما بعد قليل جده عبد المطلب.. هذا اليتيم حمل رسالة النبوة، وغير خريطة العالم.

والسيد المسيح عليه السلام ولد وشب بغير أب بشري، وموسى كليم الله الذي ألقى به في اليم وشب بعيدًا عن أبيه وتخفت أمه لترضعه.

ما الذي جعل طه حسين عميدًا للأدب العربي وقد فقد بصره في طفولته، أو المعرى الفيلسوف الحكيم الشاعر الفذ الذى ولد كفيفًا، أو العظيم بيتهوفن الذي استقبله الفقر الشديد في مهده، وشيعه الصمم إلى لحده، ثم بهر الدنيا بروائعه الموسيقية، وعايش محنة الصمم الذي أخذ يزحف عليه وهو يخفيه ثم أضطر وقد أطبق عليه أن يعتزل الناس، وعانى في عزلته نوبات يأسٍ كتب في إحداها وصيته، وهي قطعة أدبية مؤثرة، أبدى فيها أن مخافة الله وحبه لفنه هما اللذان أبعدا عنه خاطر الانتحار، حتى لا يترك العالم قبل أن يكمل رسالته، وقد فعل، وأنطق الموسيقى وهو يحسها ولا يسمعها، وألف حروفها لغة تتحدث وتصف وتقص.

كيف أستطاع أفذاذ كثرٌ من أهل الفكر والعلم والفن والأدب، أن يستمدوا من الضعف قوة، مكسيم جورجي، وجان جاك روسو، وديكنز، وموباسان، وشارلي شابلن الذي كان أبوه منفصلاً عن الأسرة لا يعاقر إلاّ الخمر، فعاش شابلن مع إخوته في ملجأ لامبث بلندن، ونيتشه الذى فقد أباه في السابعة، والفيلسوف جورج سانتايانا الذى هجره أبوه وهو في التاسعة، وبرتراند راسل الذى فقد أمه وهو في الثانية فأباه وهو في الثالثة !.

ومن أعاجيب سير الأيتام، قصة عبد الرحمن الناصر الأموي ألمع أمراء الأندلس؛ ولدت فيه محنة اليتم طاقات جعلته الألمع، وكان حكمه الذى امتد نصف قرن من أزهى عهود الأندلس الإسلامية !

وأبو حيان التوحيدي الذي حرم في طفولته من كل عطف وحنان ـ واتسمت حياته منذ بدايتها بطابع القمع والحرمان !.. الإمام مالك نشأ كاليتيم لوالد مقعد لا يقدر على شيء إلا صنع النبال.. الإمام الشافعي فقد أباه وهو دون الثانية، فحملته أمه رضيعاً إلى مكة ليعيش في أكناف الأقارب، ومع ذلك نبغ والإمام مالك وملآ الدنيا علمًا وفقها وفضلا، وصار كل منهما إماما لمذهب فقهى إسلامي كبير.. كشأن الإمام أحمد بن حنبل اليتيم الذى فقد أباه وهو طفل صغير، ولا يتذكر أنه رآه !

وأحمد شوقي أمير الشعراء الذى أخذ طفلا من بيت أبيه إلى كفالة جدته التي رعته وربته بعيدًا عن كنف الأب.. وحافظ إبراهيم شاعر النيل الذى توفى أبوه وهو دون الرابعة فنشأ يتيمًا في كفالة خاله.. والعبقري سيد درويش الذي عاش طفولة قلقة وفقد أباه وهو دون السابعة، ومع ذلك تفجر عبقريةً وصار رائد النهضة الموسيقية العربية في العصر الحديث !

وأرسطو الذى فقد صغيرًا أباه الطبيب في بلاط الملك أمينتاس ملك مقدونيا وجد الإسكندر الأكبر، وديكارت الذي فقد أمه بعد أيام من ميلاده، وتركـه أبوه لمربية ثم ألحقه في الثامنة بمدرسة اليسوعيين، ولم يعد يراه أو يحفل به، وعانى مع اليتم مرض السل !

ووليم شكسبير.. عاش عيشة الأيتام، بل واضطلع بأعباء الرجال وأبوه حي أصابه من العسر والعجز ما جعل شكسبير مسئولا عن الأسرة وهو لا يزال في الثانية عشرة.

جورج برنارد شو عجم عوده تخلى أبيه عن المسئولية فتحملها الابن صغيرًا، ولم يواظب أبوه إلاّ على معاقرة الخمر، والإغراق في التهرب من الهموم والمسئوليات، فاكتسب جورج برنارد شو من عيوب ومثالب أبيه قوة، فحرم على نفسه المسكرات اتعاظًا بما رآه في أبيه السكير، وظل حياته يعافها ويزرى بها !

تحت عنوان «أستاذ الشعراء يتيم»، يتحدث كامل الشناوي عن إسماعيل صبري باشا الشاعر القانوني الأديب الذي نشأ فقيرًا بلا أب فجعل الإنسانية أسرته !

لمـاذا اختفى الأب أو ظهر ظهورًا سلبيًا في سير الأنبياء، النبي إما يتيم فقد الأب أو حـرم في ميلاده منه، أو هو نقيض مناقضٍ لأبيه كما رأينا في سيرة إبراهيم الخليل أبي الأنبياء الذي حاربه أبوه إلى حد إلقائه في النار !

قائمة الذين ملأوا الدنيا عطاء، بالنبوة أو بالعبقرية أو بالإلهـام، قائمة لا تنتهي ولا تقع تحت حصر، ما يقبـل الحصر هو «التأمل» في الظاهرة، واستقطار معناها في المعنى تكمن الأسباب، يقـال في بعض الأمثال، ولعله مثل صيني: إن ما لا يقتلك يقويك لماذا ؟

لأن الصعاب والمشاق والأزمات والنكبات تعيد خلق الإنسان، فيولد التحدي الذي يواجهه، والخطر الذى يحدق به، بعثًا حيًا لإرادته، ينقلها من محض الرغبة أو المراد أو التمني إلى قوة مريدة فاعلة، يزيدها التحدي الذي يحاصرها اشتعالاً وتأججا ومضاءً !.. لولا هذه الإرادة التي تخلق خلقا جديدا وخاصًا مع محنة اليتم، لكان الانهزام أمام الصعاب المحاصرة هو النتيجة الحتمية، تجاوز هذه الصعاب إلى النمو الشامخ والعطاء الفذ هو آية على أن الإرادة تنمو مع المحنة والعزم يكبر ويشتد مـع التحدي، وأن شيئا لا يمكـن أن يهـزم الإنسان فردًا في حياته، أو عضوا في جماعـة أو مجتمع.. إذا استنهض العزم واستنفر الإرادة.

غير اليتم تتعدد الصور التي تولد من بين الضعف قوة.. حتى العاهات البدنية، على ما تؤدى إليه من ضعف أو إعاقة، لم تحل دون صفحات مجيدة في التاريخ وفي الفكر والفن والأدب، في تاريخ البشرية عظماء ذوو عاهات ومعاقون، ولكنهم صنعوا تاريخاً وسطروا صفحات من المجد وفخار الإنسانية.. قيل إن هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسا كان ضريرًا، وكذا كان ملتون صاحب الفردوس المفقود.. بينما يؤلف بيتهوفن أعظم سيمفونياته بعد أن أصيب بالصمم.. هذه العلل الجسدية التي أصابتهم هي التي فجرت مكامن القوة في العقل والفكر والخيال، وهيأت لما أنتجه وصاغه وألفه ونظمه هؤلاء الأفذاذ !

لا شيء يهزم الإنسان مهما أحاط به من صعاب ومشاق وأزمات ما بقى قوة فاعلة مريدة.

زر الذهاب إلى الأعلى