ماذا كشف العلم والفضاء من أسرار الكون ؟ (4)

ماذا كشف العلم والفضاء من أسرار الكون ؟ (4)

نشر بجريدة الوطن السبت 21/11/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

كان كبار أنبيائنا رضى الله عنهم وأرضاهم ـ آدميين إلى أن توفوا.. ولم يكن نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يقرأ أو يكتب الكتابة إلى أن توفاه الله تعالى.. ولم يتعلم عليه السلام العلم الدنيوى قط، ولا خاض فيما خاض فيه البشر من قبله أو من بعده من الآراء والأفكار والتصورات والمذاهب والعقائد والطقوس والقواعد والمراسم والمواسم والبناء والهدم والإقامة والسفر والإيمان والتكفير ـ لا في مدة رسالته صلى الله عليه وسلم، ولا قبلها الذي امتد إلى أكثر من أربعين سنة قبل مبعثه عليه السلام .

فذلك وأمثاله لدى أتباع غيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشريات قام وقعد عليها الآدميون حتى اليوم، على كل وجه ولون في إمكانهم، وقلما يعرف أحد من أهل الأديان الآن معرفة جيدة صحة تاريخ دينه وتاريخ الأديان الأخرى.. هذا التاريخ الذي امتد مئات السنين وطاف في عشرات بل مئات البلـدان والشعوب . وربما كان كل ما مع كل منا ـ مكتوبًا أو متداولاً ـ متدينين أو غير متدينين ـ مجرد نتف وشذرات من الواقع القليل الذي حصل، والكثير الغامر الذي أصله أخبار وأقاويل تناقلتها الألسن والأحاديث وتداولتها الأجيال فوثقها الزمن الطويل لدى أصحاب كل دين، وعاشت إلى اليوم كما هي دون أن يرد عليها جديد يوثقها أو يثبتها !.. أما قرب القيامة والحساب والآخرة على ألسنة الأنبياء رضى الله عنهم، فلم يتحدد قط برقم من سنى دنيانا، وما كان ذلك ممكنًا.. لأن دنيانا زائلة أصلا بخيرها وشرها ومعها اصطلاحاتها، ومقاييسها وأبعادها.. كذلك طيبات الآخرة وعذابها، فهي ليست بحال من الأحوال من قبيل طيبات دنيانا أو بلاياها، ولا يوجد في لغاتنا ـ ما يحمل معانى الآخرة ولغتها.. وليست كلمات البشر بقادرةٍ على الوصول إليها عدا الرسل والأنبياء.. يصعب علينا أن ندرك الكون العظيم الذي يشمل دنيانا،  والذي لا نعرف حدوده ويصعب علينا معرفتها، وكذا الآخرة التي ننتظرها بعد موتنا.. لا نعرف عنها شيئًا بحواسنا.. كلاهما من صنع الخالق جل شأنه.. سبحانه الذي خلقنا كما خلق كل شيء حي أو ميت في أرضنا أو في أي مكان في أي زمان في ذلك الكون العظيم !

ولأن حياة البشر دائمًا تيارات وموجات يستحيل أن تتوقف كلية في سيرها من ماض إلى مستقبل.. يشمل كل تيار موجاته واعتقاداته الخاصة، وآراءه وأذواقه التي بها يحكم على ماضيه ذاكرًا بعض ما فات ويترقب ما سيجىء.. مستعينًا بما جمع من ماضٍ إلى حاضر.. فالحاضر حاضر دائمًا والإعادة والزيادة محاولة تذكر ومحاولة توقع.. تتبادلان محاولتي التذكر والتوقع.. لا ينفصلان في ذات كل آدمي وأناه.. وهما محاولتان سطحيتان ساذجتان من نتاج وإعراب الذات والأنا من أوائل العمر إلى أواخره.. وقد يتسع يومًا ما.. لدى الآدميين عامة ـ إدراكهم للكون الواسع، فيعلمون ويقرون ولا ينسون قط في أية لحظة من الذي جعل ويجعل وسيجعل الأرض مهادًا والجبال أوتادًا وخلقنًا أزواجًا والذي جعل سبحانه يوم الفصل ميقاتًا.. حينئذ سوف ندرك الفارق الهائل بين سطحيتنا الآن وبين حكمة ذلك الآدمي الحكيم الذي لا يعرف حب الذات وخبث الأنا !!

وهذا الأمل أمل باهت صعب الآن إن قيس بما نحن عليه من الكثرة المغرقة الهائلـة السخيفة، التافهة الغاية، السطحية الغرض، السريعة التنقل من عمق إلى عمق آخر أشد خلوًا وبَلَهًا، لا يكاد يمتاز كبيرها عن صغيرها وعارفها عن جاهلها.. اللهم إلاّ الاحتشاد والتجمع ولكن للادعاء والتظاهر والافتخار الخادع الكاذب والجعجعة والتنافس بين الكل على ذلك ليل نهار.. تنافسًا أجوف كله بريق ولمعان فقـط.. لا يسبقه عقل عاقل متزن يفرز ويقلب ويضيف ويحذف ويقدر كل شيء بقدره وسط زحام الأوهام والأحلام، التي تتدفق بلا توقف.. إلى أين ؟.. لا أحد يدرى ؟ !!

هل ننتظر يائسين تدمير النوع البشرى كافة كما دمر من قبله أنواع وألوان من الأحياء اندثروا تمامًا بلا رجعة ؟ أم نحقق لبقائنا الآنى ارتقاءً غير مسبوق من شيوع الإنسانية الحقيقية الجادة التي يمكن أن تفيد بما دان لنا من اكتشافات تشهد بكثير الكثير مما في الفضاء الشمسي بكواكبه وعلاقاته بالكون العظيم من خير عميم .

والعلماء الطبيعيون الآن في العالم غير قليلين،  والكثير منهم كفء في علمه.. لكنهم لأنانيتهم الغالبة لا يوجهون كفاياتهم إلا إلى أصحاب الصناعة الأثرياء الذين يهمهم ثراؤهم قبل الاهتمام الجاد بأحوال العامة من الناس.. فأغلب أهل العلم الطبيعى وكبار فنييهم منحازون ـ لأشواق الثروة والجاه ـ إلى الأقلية الثرية التي يزيدونها قوة وقدرة ونفوذاً.. فلم يحقق العلم الطبيعي وكفاياته الفنية الغرض المرجو منه قبل كل شيء، وهو خدمة وترقية غالبية البشر.. وقد صار العلم الطبيعي علمًا وحرفة في زماننا وبداية ونهاية لأصحابه ومدعيه ـ الذين يثبون جميعًا في البدايات على سلالمه إلى ما قد يتيسر لكل منهم مما يرجوه لنفسه قبل أي غرض آخر!.. لا يتحرك الجميع علماء وجهلاء أغنياء وفقراء حاكمين ومحكومين ـ لا يتحركون إلا في قبضة الأنا بخيالاتها وأوهامها وألعابها وحماقاتها وأخطارها وبلاياها ونكباتها.. لا يوجد الآن عاقل إلا نادر النادر.. فإذا وجد عز عليه أن يجد من أولاده أو أقاربه أو معارفه أو جيرانه أو معامليه إلاّ ضباب ذات.. كل بغير استثناء !

يلاحظ المتابع المتأمل أننا الآن قد توسعنا بلا استثناء.. عالمنا وجاهلنا وغنينا وفقيرنا وصغيرنا وكبيرنا ومتحضرنا ومتأخرنا.. توسعنا توسعًا هائلاً ـ في الماديات، وغير الماديات ونسينا إلى حد مذهل داخلنا فيما عدا « أنا » كل منا، فباتت هي كل شىء تقريبا.. هي محور الحياة للآدمى الحىّ باستمرار.. عطاءً وأخذًا وأخذًا وعطاءً.. لا ينقطعان إلى نهاية العمر باطراد يطمئن « الأنا » إلى تحقيق الكسب وتجنب الخسارة، وتحقيق الشبع وكف الجوع.. جوع يتمنى شبعًا، وشبع يفرز جوعًا، وهكذا عطل هذا الاطراد الالتفات الجاد إلى داخل الآدمى.. هذا الداخل الذي كثيرًا ما يكسب العاقل عمقًا وأحيانًا شفافيةً إن لم يتيسر له أن يتعلم شيئًا من العلوم المتداولة في بيئته.. ولو عرف كل منا تغلغل « أناه » وامتدادها في حياته إلى آخر العمر ـ لتفطن لطغيانها على كيانه منذ أن يولد إلى أن يموت.. فهو لا يلتفت لكثرة وسعة الامتداد بحضورها في اليقظة والنوم والصغر والكبر والصحة والمرض والراحة والتعب واليسر والعسر والضحك والبكاء والسرور والخوف ولا يلاحظ مثولها فيما نسميه ذاتية كل منا واسمه وشخصيته في ماضيه وحاضره وسمعته وأسرته وأهله وبيئته ومكانته وأصله وفصله.. ربما يفيق الآدمى من هذا الاستغراق الشامل المكتسح فيتخفف من إصراره على التشدد الهائل في التمسك بالأنا.. وهذه الإفاقة إن حدثت لا تحدث إلاّ إفاقة ذاتية صرف مقطوعة الصلة بالغير ـ خلاف ما تعارف ويتعارف عليه الناس في كل زمان ومكان من التوافق عند إبرام العقود والعهود وإنجاز المعاملات ـ عن رضا أو غير رضا حسب ظروف كل من طرفي التعامل .

ونحن لا نكف عن استعمال العين حتى في النوم.. وهي عين الأنا عند كل منا، لكنها لا ترى إلاّ ما هو خارجها.. وذلك دائمًا على مسافة ما..لأن الأنا لا ترى.. فأعيننا تراها فقط في صورة كل منا في المرآة أو في نظائرها وأشباهها عما نحفظه ونعتز به وفيما يتخيله كل منا في صحوه من رجاء أو خوف وفي نومه من الأحداث !

لو تأمل الآدمى في داخله وفي أحوال الإنسان،  واستوعب ما كشفه العلم والفضاء من أسرار الكون وعجائبه وخيراته،  لفهم معنى الحياة، وفهم كيف يمكن أن يستوعب معناها وأن يكون فيها كما أراده الخالق البارئ جل شأنه ـ  خليفة له سبحانه، يتواصل مع حركة الكون في صنع وعمار الحياة !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى