مأمور الضبط القضائي بين القبض والتعرض المادي

بقلم الدكتور/ محمد عاطف كامل
دكتوراه في القانون الجنائي ومحاضر بكلية الحقوق والجامعة العمالية

منح المشرع المصري مأمورى الضبط القضائي سلطات استثنائية في أحوال معينة، هذه السلطات هى في الأصل محتجزة لسلطة التحقيق الابتدائي -النيابة العامة- ولا تقع ضمن دائرة أعمال الاستدلال التي قررها المشرع لمأمورى الضبط القضائي، غير أن المشرع خرج عن هذه القاعدة الأصلية فخول مأمورى الضبط القضائي سلطات أوسع يباشرونها على ألا يتوسع في هذه السلطات أو يقاس عليها، وذلك عند تحقق حالة التلبس بالجريمة، و الندب للتحقيق الابتدائي فى أحوال معينة.

فبدلاً من قصر اختصاصه في الأحوال العادية على وظيفة الاستدلال فقط، وتوقف سلطاتهم عند هذا الحد، رأى المشرع لظروف وأسباب قدرها متعلقة بسرعة الإجراءات والاستعجال، والرغبة في تحقيق قدر من المرونة الإجرائية، فضلاً عن أنّ أدلة الجريمة في أحوال التلبس تكون واضحة ولا تحتاج إلى مماطلة أو تأخير، وأن آثارها لا تزال قائمة قبل أن تُطمس معالمها وعليه آثار الجانى قبل أن تشوه معالمها.

فوجد المشرع -أنه من الأجدر- منح مأمور الضبط القضائي سلطة استثنائية تمس بحرية الشخص (الجانى) عند وقوع الجريمة في حالة تلبس كالقبض والتفتيش أو يندب لبعض من أعمال التحقيق والتي هي من صميم أعمال التحقيق الابتدائي.
وقد تجسد ذلك في نصوص قانون الإجراءات الجنائية في المادة (34) والتي تنص على “لمأمور الضبط القضائي فى أحوال التلبس بالجنايات أو الجنح التى يعاقب عليها بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر، أن يأمر بالقبض على المتهم الحاضر الذى توجد دلائل كافية على اتهامه”.

البين من النص أن مأمور الضبط القضائي له من السلطات في أحوال التلبس بالجريمة القبض على المتهم وتفتيشه، غير أن هذا المفهوم ليس على إطلاقه، إذ إن سلطاته هنا محدودة، بمعنى إنه يشترط للقبض والتفتيش أن تكون الجريمة المتلبس بها، وأن توصف بأنها جناية أو جنحة ومعاقب عليها بعقوبة الحبس الذى يزيد عن ثلاثة أشهر، بل اقترن بهذا الشرط شرط آخر، وهو وجود دلائل كافية واثباتات كافية ضد الشخص الحاضر، يُرجح معها ارتكابه لهذه الجريمة سواء كان فاعلاً أو شريكاً.

وبمفهوم المخالفة، فقد استبعد هذا النص الجرائم التي تقل عقوباتها عن ثلاثة أشهر حبس، كما أن البين من هذه المادة أنها استبعدت كذلك المخالفات المتلبس بها من إجراء القبض أو التفتيش، فيحظر على مأمور الضبط القضائي إذا كانت الجريمة لا تعدو أن تكون مخالفة أن يقبض على المتهم ويقوم بتفتيشه، فالتلبس بأي من هذه الجرائم لا يجيز لمأمور الضبط القضائي سوى تحرير محضر بالواقعة بما شاهده.

ونستعرض في هذه الجزئية إحدى السلطات الاستثنائية التي خولها القانون لمأمور الضبط القضائي عند التلبس بالجريمة، والتى هي في الأصل من أعمال التحقيق الابتدائي المسندة أصليًا إلى سلطة التحقيق الابتدائي، وسوف نتناول إجراء القبض باعتباره إجراءً استثنائياً يباشره مأمور الضبط القضائي، فنعرض لتعريفه، ونبيّن أحكام الدستور المصري وقانون الإجراءات الجنائية المعمول به حاليًا المتعلقة به، ثم نميز بينه وبين التعرض المادي، وذلك على النحو الآتي:

أولاً- مدلول القبض على المتهم:
عرّفت محكمة النقض المصرية القبض وقررت بأنه “القبض على الشخص هو تقييد حريته والتعرض له بإمساكه وحجزه ولو فترة يسيرة تمهيداً لاتخاذ بعض الإجراءات ضده”.

ويستدل من هذا التعريف، أن القبض لا يقع إلا بالسيطرة على الشخص (المقبوض عليه) وتقييد حريته بإمساكه وحجزه وإن كانت مدة تقييده بسيطة ولو فترة وجيزة، والقصد من تقييد حريته هو التمهيد لاتخاذ إجراءات قانونية إجرائية بحقه.
والقبض يقتضى في أغلب الأحوال أن ينفذ ويباشر ببعض من وسائل الإكراه، على أن يكون الإكراه بالقدر اللازم لتقييد حرية المقبوض عليه، إلا أن الإكراه ليس شرطاً حتمياً بالفعل للسيطرة على المقبوض عليه عند القبض عليه، فقد يقع القبض دون إكراه.

ويعد القبض أثراً مترتباً على وقوع الجريمة في حالة تلبس، كما يصنف القبض ضمن أعمال التحقيق الابتدائي التي تختص بها سلطة التحقيق الابتدائي أصلياً، ومع ذلك، فهو يُعد إجراءً استثنائيًا يجريه مأمور الضبط القضائي إذا شاهد الجريمة متلبس بها.
ومن الجدير بالذكر أن مصطلح “مشاهدة” يثير أهمية خاصة تقتضي بيان مفهومه وتوضيحه، غير أننا آثرنا إرجاء ذلك إلى موضع لاحق، إذ إن تحقق التلبس بطريق المشاهدة يتيح لمأمور الضبط القضائي اتخاذ إجراءات القبض والتفتيش دون حاجة إلى إذن من النيابة العامة.

ثانياً- موقف الدستور المصري وقانون الإجراءات الجنائية الحالي من القبض:
تأكيداً لما سلف عرضه، فقد أفصح كل من الدستور المصري لسنة2014م، وقانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة1950م وتعديلاته، عن تنظيم إجراءات القبض على المتهم، وربطها بنصوص الحرية الشخصية وصيانتها، بحيث يحظر القبض على أي شخص إلا في أحوال معينة، أهمها حالة التلبس بالجريمة، ونعرض موقف الدستور المصري وقانون الإجراءات الجنائية المصري الحالي.

1- الدستور المصري 2014م:
قررت أحكام الدستور المصري لسنة 2014م في نص (المادة 54 الفقرة الأولى) الآتي:
“الحرية الشخصية حق طبيعي، وهى مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد،
أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي مسبب يستلزمه التحقيق”.

2- قانون الإجراءات الجنائية المصري رقم 150 لسنة1950م، وتعديلاته (المعمول به حاليًا):

نص قانون الإجراءات الجنائية في صدر الفصل الثالث المتعلق بالقبض على المتهم، على المواد المنظمة لهذا الإجراء، ففي نص المادة (34) قرر الآتى” لمأمور الضبط القضائى فى أحوال التلبس بالجنايات أو الجنح التى يعاقب عليها بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر، أن يأمر بالقبض على المتهم الحاضر الذى توجد دلائل كافية على اتهامه”.

وبذلك يكون المشرع قد منح مأموري الضبط القضائي سلطة استثنائية في حالات معينة، وهي حالة التلبس بارتكاب جناية أو جنحة معاقب عليها بالحبس مدة تزيد على ثلاثة أشهر، بشرط أن يكون المتهم حاضراً وتتوفر دلائل كافية على اتهامه، وهذا التقييد يعكس حرص المشرع على عدم إطلاق يد مأموري الضبط القضائي في مباشرة سلطة القبض إلا في أضيق الحدود التي تبررها خطورة الجريمة وظروفها.

ثالثاً- التمييز بين القبض والتعرض المادي:
سبق أن تناولنا تنظيم المشرّع المصري لإجراء القبض، ونكتفي بما ورد في هذا الشأن، لنتناول هنا إجراء التعرض المادي باعتباره مغايراً للقبض في طبيعته وأهدافه.

التعرض المادي: إجراء قانوني يقصد به منع الشخص من الفرار إذا كان في حالة تلبس بالجريمة، ويهدف إلى تسليم المتهم أو المشتبه فيه إلى السلطات المختصة لاتخاذ الإجراءات القانونية ضده.

والتعرض المادي إجراء تستلزمه الضرورة الإجرائية وذلك لعدم وجود من لهم سلطة القبض في مكان الجريمة وأثناء التعرض المادي للمتهم.

صفة القائمين بالتعرض المادي:
حدد قانون الإجراءات الجنائية المشار إليه صفة القائمين بأعمال التعرض المادي وذلك في نصوص المادتين (37، 38) وهم الفرد العادي، ورجل السلطة العامة.

1- بالنسبة لنص المادة (37) إجراءات جنائية والتى تنص على ” لكل من شاهد الجانى متلبسا بجناية أو جنحة يجوز فيها قانوناً الحبس الاحتياطي، أن يسلمه إلى أقرب رجل من رجال السلطة العامة دون احتياج إلى أمر بضبطه”.

وجه المشرع الخطاب هنا للفرد العادي، مانحًا إياه سلطة استثنائية تتمثل في القيام بإجراء التعرض المادي للمتهم، وتقييد حريته وشل حركته والسيطرة عليه، متى كانت الجريمة في حالة تلبس بفعل مؤثم يشكل جريمة جناية أو جنحه يجوز فيها الحبس الاحتياطي.

غير أن هذه السلطة ليست مطلقة، إذ الزم المشرع الفرد العادي أن يبادر فوراً إلى تسليم المقبوض عليه إلى رجل السلطة العامة مباشرة ودون حاجه لأمر لضبطه طالما الجريمة متلبس بها.

والمستدل من نص المادة المعروضة أن المشرع خول الفرد العادي سلطة التعرض المادي لمرتكب جريمة وكان في حالة تلبس، غير أن المشرع وضع بعض الضوابط الخاصة بالتعرض المادي من قِبل الفرد العادي ضد المشتبه فيه، فلا يباشر الفرد العادي إجراء التعرض المادي إلا إذا كان المشتبه فيه متلبساً بالجريمة، واشترط كذلك أن تكون طبيعة الجريمة جناية أو جنحة ويجوز فيها الحبس الاحتياطي ولا ينطبق ذلك على المخالفات، على أن دور الفرد العادي ينتهى عند تسليم المشتبه فيه إلى أقرب رجل للسلطة العامة، كما أنه يحظر على الفرد العادي أن يقبض على المتهم أو يفتشه تفتيشاَ تنقيبياً، إذ إن هذا الإجراء يختص به حصراً مأمورو الضبط القضائي بموجب القانون، ويكتفى بذلك من إجراءات صادرة من الفرد العادي.

وضماناً لحرية المتهم، فيحظر على الفرد العادي أن يتعرض مادياً للمشتبه فيه ما لم يشاهده في حالة تلبس حتى لو شاهد الجريمة متلبس بها، ويعد هذا الشرط قيد على الفرد العادي وضمانة لحرية الأشخاص في وجوب التعرض المادي متى كان المتهم نفسه متواجد ومتلبس بها.

2- بالنسبة لنص المادة (38) إجراءات جنائية والتى تنص على “لرجال السلطة العامة، فى الجنح المتلبس بها التى يجوز الحكم فيها بالحبس، أن يحضروا المتهم ويسلموه إلى أقرب مأمور من مأموري الضبط القضائى.

ولهم ذلك أيضا فى الجرائم الأخرى المتلبس بها إذا لم يمكن معرفة شخصية المتهم”.

يخاطب المشرع في نص هذه المادة رجل السلطة العامة ويقصد به مأمور الضبط الإداري، وخوله في أحوال التلبس بجريمة تشكل جنحة ويجوز فيها الحكم بعقوبة الحبس أن يتعرض مادياً للمتهم ويكتفى بإحضاره إلى أقرب مأمور ضبط قضائي لاتخاذ إجراءاته، وقد منح المشرع رجل السلطة العامة طبقاً لنص هذه المادة سلطة أوسع من السلطة المقررة للفرد العادي المذكورة بالمادة (37 إجراءات جنائية) حيث خوله الحق في التعرض المادي للمتهم متى توافرت حالة التلبس حتى ولو لم يشاهد الجانى متلبس بها، أي إنه متى كانت الجريمة متلبس بها وقد عاينها رجل السلطة العامة فذلك يخوله التعرض المادي للمشتبه فيه، لأن التلبس حالة عينية متعلقة بالجريمة لا الجانى، فيجوز لها التعرض المادي للمتهم وتسليمه إلى أقرب مأمور ضبط قضائي، فيتحفظ رجل السلطة العامة على أدوات الجريمة أو جسم الجريمة أو الجانى نفسه.

ومما سبق فالقبض الذى يباشره الفرد العادي أو رجل السلطة العامة يعد قبض مادي وليس القبض الخاص بأعمال التحقيق فلا يعطيهم التعرض المادي حقاً في أي عمل إجرائي، إلا أنه يجوز لهما التفتيش الوقائي لشخص المتهم المقبوض عليه في حالة التلبس.

المراجع: بعض من مؤلفات قانون الإجراءات الجنائية والمؤلفات المتخصصة.

زر الذهاب إلى الأعلى