لا أصل للخلافة في الإسلام (6) محاولات التنظير بين القدامى والمحدثين

من تراب الطريق(948)

لا أصل للخلافة في الإسلام (6)

محاولات التنظير بين القدامى والمحدثين

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

تعدد الذين كتبوا ـ قديمًا وحديثًا ـ عن الخلافة، وعن أصول الحكم في الإسلام، منهم من تشيع للقول بأن الإسلام حدَّدَ «الخلافة» بالذات نظامًا للحكم، ومنهم من رأى كالأستاذ السنهوري أن الخلافة التامة لا تنطبق إلاَّ على خلافة الخلفاء الراشدين، وأن ما بعدهم «خلافة ناقصة» لأنها لم تلتزم مبادئ البيعة والشورى واتخذت الوراثة أساسًا لتداول الحكم أو الملك، ومنهم من رأى أن القرآن الحكيم لم يتحدث بصدد الحكم والحكومة إلاَّ عن مبادئ عامة، ولم يحدد شكلاً أو نظامًا معينًا للحكومة ، ومنهم من نفى نفيًا تامًّا أن يكون الإسلام ـ قرآنًا أو سنّة ـ قد تعرض بأي شكل للحكم أو الحكومة ناهيك بالخلافة ، ومن هؤلاء وأولاء من اقتصد في رأيه والتزم الموضوعية وأصول البحث والنظر ، ومنهم من غالى مغالاة وصلت في بعض الأحيان إلى الإسراف بل والتحامل الذي يكاد أن يحسب تحاملاً على الإسلام ذاته .

وهذا التعدد والتنوع والاختلاف والتضارب، يضع على عاتق الباحث الموضوعي مهمة اتقاء مغالاة من غالوا وابتعدوا عن الموضوعية وعن أصول البحث والنظر وعن القصد والاعتدال ـ وأن يبحث بنفسه في الأصول ليكون رأيه صافيًا بعيدًا عن الغلو أو عن هذا التصارع الشديد الذي كثيرًا ما ابتعد عن الموضوعية !

ابن خلدون

في مقدمته الضافية، لتاريخه المعروف «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» ـ توقف «ابن خلدون» طويلاً أمام نظام الخلافة، ونظام الملك ، وأحسب أن معظم من كتبوا بعد ذلك في أصول الحكم من الإسلام ، عالة على ما أورده ابن خلدون في مقدمته الضافية الشهيرة ، وغايته التي لا تفوت فيه، هي التفرقة الواجبة بين « الملك » وبين « الخلافة ».

وبعد فصول تمهيدية ، دخل ابن خلدون إلى لب الموضوع ، وهو انقلاب الخلافة إلى ملك ، ملاحظًا أن الملك غاية طبيعية للعصبية ، إذا لا يقوم الملك إلاَّ جريًا وراء هذه العصبية ، وهى عصبية الانتماء إلى فصيل معين تبعًا للجنس أو الأصل أو غير ذلك .

وهذه العصبية مكروهة بكل صورها في الإسلام ، إذ فيها قال الحديث إن الله أذهب عن المخاطبين « عُبَّيّة » الجاهلية ، وهى الكبر والفخر والخيلاء ، وقال تعالى : « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ » .

وهذه العصبية مذمومة ، ذمها الشارع الإلهي، فقال : « لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم » . لأن العصبية تقوم على الباطل وأحواله كما كانت في الجاهلية ، وهذا بالطبع غير العصبية في الحق وللحق .

كذلك الملك ، ممدوح أو مذموم تبعًا لمراده وأغراضه .

وقد روى أن معاوية حين لقى ـ بالشام ـ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، في كوكبة وأبهة وزينة ، استنكر عمر ذلك ، وقال له : « أكسروية يا معاوية ؟ »  .

وهكذا كان شأن الصحابة في رفض الملك وأحواله ، حذرًا من الالتباس بالباطل .

أما كيف تحولت الخلافة التي بدأت بالصديق ، إلى الملك ، فكانت البدايات في تعاظم الثروات التي وصفها المسعودي ( في مروج الذهب ) ـ ونقلها عنه ابن خلدون بالتفصيل ، ومختصر القول إنه صارت أحوال الدين تبعًا لفساد الدنيا ، فبدأ يصير الأمر إلى الملك وإن بقيت معاني الخلافة في تحرى الدين ومذاهبه والجرى على منهاج الحق ، ولم يظهر التغير إلاَّ في الوازع الذي كان دينًا ثم انقلب عصبيةً وسيفًا ، وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر الأول من خلفاء بنى العباس إلى الرشيد وبعض ولده .

ثم ذهبت معاني الخلافة ـ فيما يقول ـ ولم يبق إلاَّ اسمها ، وصار الأمر ملكًا بحتًا ، وجرت طبيعة التقلب إلى غايتها ، واستعملت في أغراضها من القهر والتغلب في الشهوات والملاذ . وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك ، ولمن جاء بعد الرشيد من بنى العباس ، وظل اسم الخلافة باقيًا فيهم لبقاء عصبية العربي.

والخلافة والملك في الطورين ملتبس بعضها ببعض . ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشى أحوالهم ، وبقى الأمر ملكًا بحتًا ، كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق ، يدينون بطاعة الخليفة تبركًا ، والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم وليس للخليفة منه شيء ، وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيدين ومغراوة وبنى يفرن أيضًا مع خلفاء بنى أمية بالأندلس والعبيدين بالقيروان .

قد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولاً ، ثم التبست معانيها واختلطت ، ثم انفرد الملك ، حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة . والله مقدر الليل والنهار ، وهو الواحد القهار .

ثم أتبع ابن خلدون ذلك بحديث في معنى البيعة ، وآخر في ولاية العهد ، ما أصاب فيها وما أخطأ وهو الذي ساد في الدولة الأموية والدولة العباسية ، بعد أن أشرفت العصبية على غايتها من الملك ، وضعف الوازع الديني ، واحتيج في المقابل إلى الوازع السلطانى والعصبانى !

وخلاصة ما انتهى إليه ابن خلدون ، التفرقة بين الخلافة الخالصة التي كانت في زمن الراشدين ، وبمفهوم المخالفة أن غيرها ملك ، فإن تسمت بالخلافة فهي خلافة غير خالصة . وسوف نرى أن الأستاذ السنهوري اعتبرها « خلافة ناقصة » في رسالته الثانية للدكتوراه . سنة 1926 . عن فقه الخلافة .

 

زر الذهاب إلى الأعلى