قانون المخزون الاستراتيجي
بقلم الدكتور/ أحمد عبد الظاهر- أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
في سنة 2016م، شهدت مصر العديد من أزمات نقص السلع الغذائية والأدوية والمنتجات البترولية، بدأت بأسطوانات الغاز، مروراً بالأرز والسكر ولبن الأطفال، وجاء الدور أخيراً على الأنسولين المدعم، والبقية تأتى. وبالتزامن مع كل أزمة من هذه الأزمات، نسمع دائماً العبارة ذاتها، وهي أن «الأزمة مفتعلة، والمخزون الاستراتيجي يكفي لاستهلاكنا لخمسة أو ستة أشهر، ولا داعي للانزعاج مطلقاً». وبمناسبة التصريحات المنسوبة إلى وكيل نقابة الأطباء حول إصدار وزارة الصحة والسكان أوامر للمستشفيات باستخدام السرنجات أكثر من مرة، أكدت الوزارة أن «لديها مخزوناً استراتيجياً لتأمين احتياجات المستشفيات من المستلزمات الطبية يكفي لمدة عامين». عبارة واحدة لم تتعدل أو تتبدل في كل الأزمات آنفة الذكر، الأمر الوحيد الذي يختلف من أزمة إلى أخرى هو المسئول الحكومي الذي يصدر عنه التصريح. والغالب أن يصدر مثل هذا التصريح عن وزير التموين فيما يتعلق بالسلع الغذائية، أو عن وزير الصحة فيما تعلق بلبن الأطفال والأنسولين وغيرها من المستلزمات الطبية. ولكن، بدأنا نسمع مثل هذه التصريحات من بعض المحافظين، وتحديداً محافظي دمياط والأقصر ومطروح. ومن ثم، يثور التساؤل عن السبب الذي يدعو المحافظين إلى الحديث عن المخزون الاستراتيجي، وذلك بالنظر لأن هذا المخزون يكون على المستوى الوطني أو على مستوى الدولة ككل، ولا يتعلق بمحافظة ما. ويبدو أن الأمر ليس سوى محاولة لطمأنة المواطنين.
ثمة تساؤلات أخرى تتعلق بتحديد السلع الضرورية أو السلع الأساسية التي يلزم أن يشملها مفهوم «المخزون الاستراتيجي»، وكيفية بناء هذا المخزون، وما هي القواعد الحاكمة للسحب منه، وما فائدة المخزون الاستراتيجي إذا لم يسهم في التخفيف من وطأة الأزمات آنفة الذكر، ولماذا لم يتم السحب منه لسد حاجة المواطنين من هذه السلع التي لا يمكن الاستغناء عنها أو تأجيل الحاجة لها. ونعتقد أن الإجابة عن التساؤلات آنفة الذكر إنما تكون من خلال قانون يحدد كافة الجوانب التنظيمية لهذا الموضوع الحيوي المهم، وذلك على نحو ما فعلت العديد من الدول الأجنبية والأفريقية والعربية.
المخزون الاستراتيجي أحد عناصر الأمن القومي
لعل من نافلة القول إن المخزون الاستراتيجي هو أحد عناصر الأمن القومي. ولا نغالي إذن إذا قلنا بأنه لا يمكن ضمان الأمن القومي بدون الحفاظ على مخزون استراتيجي كاف من السلع والمواد الأساسية. إذ تهدف سياسة العمل على تكوين مخزون استراتيجي إلى تأمين التقلبات غير المتوقعة، مثل الهبوط المفاجئ في الانتاج المحلي والعالمي والكوارث الطبيعية والمتغيرات السياسية الدولية، الأمر الذي يتطلب ضمان الاحتفاظ بقدر من المواد الغذائية والأساسية يكفي لتغطية نحو ثلث الاستهلاك المحلي السنوي على الأقل، وبما يسمح بالتعاقد على استيراد تلك السلع وضمان تغطية الاستهلاك المحلي لحين وصول القدر المتعاقد على استيراده.
المخزون الاستراتيجي والسلع الأساسية
نعتقد أن ثمة ارتباط بين مفهوم «المخزون الاستراتيجي» ومفهوم «السلع الأساسية». ونرى أن المخزون الاستراتيجي يتعلق بوجه أساسي بمجموعة السلع والمواد التي يصدق عليها أنها «سلع أساسية» لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال وتحت أي ظرف من الظروف. وفي تحديد «السلع الأساسية» التي ينبغي الاهتمام بتوفير مخزون استراتيجي منها، يؤكد البعض بحق أن مفهوم «المخزون الاستراتيجي» يعتبر مفهوماً مرناً من حيث نوع السلعة والمدة المطلوبة للتخزين، وهو يختلف من دولة لأخرى باختلاف النظم السياسية والاقتصادية السائدة وطبيعة السلع المخزونة ومدى توفيرها وطبيعة المشكلات الاقتصادية والسياسية التي تواجه كل دولة، هذا بالإضافة إلى التوزيع الجغرافي لمنافذ الاستيراد والتصدير وكفاءة عمليات النقل الداخلي والخارجي، إضافة إلى السياسات الاحتكارية التي تتبعها بعض الدول المسيطرة على السلع الأساسية ومحاولتها استغلال الميزة التي تتمتع بها في هذا الشأن للسيطرة على الدول الأخرى.
ومنظوراً للأمور على هذا النحو، وفيما يتعلق بدولة الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، يرى البعض أنه يمكن تحديد السلع والمواد الأساسية بالنسبة لها في «السلع الغذائية أولاً، وهي تشمل الحبوب الرئيسة كالقمح والذرة والشعير، الفواكه والخضر الرئيسة وتشمل التمور والبطاطا والبصل، اللحوم بأنواعها، الأعلاف الجافة، الحليب المجفف، الزيوت النباتية المستخدمة في الطبخ، وثانيا مياه الشرب، ثالثا الوقود بكافة أنواعه، الأدوية وبخاصة أدوية الأمراض المزمنة والالتهابات الحادة والإسعافات الأولية، وأخيرا الأدوية البيطرية» (د. هاشم النعيمي، المخزون الاستراتيجي ومعايير اختياره، جريدة الخليج، الشارقة، اقتصاد، آراء وتحليلات، 5 أغسطس 2010م).
المخزون الاستراتيجي والسلع الاستراتيجية
يربط البعض بين مفهوم «المخزون الاستراتيجي» ومدلول «السلع الاستراتيجية»، مؤكداً أن أولهما ينصب على ثانيهما. ودون الخوض في مدى صحة هذا الربط، ودون الجزم بأن مصطلح «السلع الاستراتيجية» ذو دلالة معينة، نود فحسب الإشارة إلى أن هذا المصطلح له مدلول قانوني محدد في بعض الدول العربية. فعلى سبيل المثال، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، ورد تعريف «السلع الاستراتيجية» في المادة الأولى من القانون الاتحادي رقم (13) لسنة 2007م بشأن السلع الخاضعة لرقابة الاستيراد والتصدير، بنصها على أن «السلع الاستراتيجية: السلع ذات الاستخدام العسكري أو الحربي أو ذات الاستخدام المزدوج أو ذات الاستخدام في أسلحة الدمار الشامل أو التي تستخدم لصنع أو تطوير هذه الأسلحة والتقنيات المتصلة بها وفق ما هو محدد في جدول السلع الاستراتيجية الملحق بهذا القانون». وفي الإطار ذاته، ووفقاً للمادة الأولى من المرسوم رقم (13) لسنة 2020 بشأن تنظيم تداول السلع الاستراتيجية في إمارة دبي، «السلع الاستراتيجية: المواد والتكنولوجيا القابلة للاستغلال في تجهيزات الأسلحة والصواريخ والمواد النووية أو التقنيات أو البرمجيات المتصلة بها». وغني عن البيان أن «السلع الاستراتيجية» بهذا المعنى تختلف اختلافاً جذرياً عن «السلع الأساسية» التي ينبغي أن يرد عليها المخزون الاستراتيجي.
المخزون الاستراتيجي والأنشطة ذات الأثر الاستراتيجي
استخدم المشرع الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة تعبير «الأنشطة ذات الأثر الاستراتيجي»، وذلك في عنوان المادة العاشرة من القانون الاتحادي رقم (2) لسنة 2015 بشأن الشركات التجارية، معدلة بموجب المرسوم بقانون اتحادي رقم (26) لسنة 2020م. ووفقاً لهذه المادة، «1. تشكل بقرار من مجلس الوزراء، بناء على اقتراح الوزير، لجنة تضم في عضويتها ممثلين عن السلطات المختصة، تختص باقتراح الأنشطة ذات الأثر الاستراتيجي، والضوابط اللازمة لترخيص الشركات التي تباشر أي نشاط من هذه الأنشطة. 2. يصدر مجلس الوزراء، بناء على توصية اللجنة المنصوص عليها في البند (1) من هذه المادة، قراراً بتحديد الأنشطة ذات الأثر الاستراتيجي، وضوابط ترخيص الشركات التي تباشر أي نشاط من هذه الأنشطة… 4. لمجلس الوزراء بناء على طلب الوزارة أو الجهة المعنية، أو السلطة المختصة، بحسب الأحوال، أن يستثني أي شركة تنظم أنشطتها بموجب تشريعات خاصة، من أي شرط أو نص يتعلق بنسبة ملكية المواطنين أو اشتراكهم في إدارة تلك الشركة». وفي اعتقادنا أن الأنشطة ذات الصلة بإنتاج السلع الأساسية هي أنشطة ذات أثر استراتيجي. وقد يكون الإجراء المتبع في شأنها هو قصر ممارسة هذا النشاط على رأس المال الوطني، إذا كانت الدولة لديها القدرات المادية والتقنية اللازمة لممارسته. وقد يكون الإجراء المتبع هو تشجيع رأس المال الأجنبي للاستثمار في هذا النشاط بالدولة، وبحيث تضمن الدولة انتاج السلع الأساسية التي تحتاج إليها على أراضيها بدلاً من استيرادها من الخارج، وذلك تجنباً لما يحمله الاعتماد على الاستيراد في توفير هذه السلع من مخاطر جمة.
المخزون الاستراتيجي والمخزون العامل
يميز البعض بين «المخزون الاستراتيجي» و«المخزون العامل»، مؤكداً أن مدلول المصطلح الأخير يتحدد في الحد الأدنى اللازم الاحتفاظ به لمواجهة التقلبات العادية سواء في الانتاج المحلي أو الأسعار العالمية، أما «المخزون الاستراتيجي» فيشمل احتياطات قومية يتم الاحتفاظ بها لمواجهة التقلبات الحادة في الانتاج والأسعار العالمية أو مواجهة الظروف الطارئة كالكوارث والحروب والأزمات، ويخضع هذا المخزون لقواعد محددة من حيث الحجم المراد الاحتفاظ به والأحوال التي يتم السحب فيها من المخزون الاستراتيجي، ويخضع قرار إدارة هذا المخزون لسلطة عليا في الدولة.
التشريعات المقارنة بشأن المخزون الاستراتيجي
فيما يتعلق بالذهب الأسود، أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية قانون توزيع البترول في حالات الطوارئ لعام 1973م، وقانون احتياطي النفط الاستراتيجي لعام 1975م.
Emergency Petroleum Allocation Act of 1973 (EPAA).
The Energy Policy and Conservation Act of 1975 (EPCA).
وقد صدر هذان القانونان في أعقاب قيام العرب بمنع النفط عن الدول الغربية في أثناء حرب أكتوبر 1973م. وتهدف مثل هذه القوانين إلى ضمان استقرار أسعار النفط وضمان استقرار السوق النفطية، وعدم تأثرها بأي ظروف طارئة قد تؤدي إلى انقطاع امدادات النفط من الدول الأجنبية.
وفى القارة الأفريقية، أصدرت زامبيا القانون رقم 12 لسنة 1995م بشأن الاحتياطي الاستراتيجي من الغذاء. وقد ألغي هذا الحل مؤخراً وحل محله قانون جديد. ففي الثالث والعشرين من أكتوبر 2020م، صدر قانون جديد بشأن الاحتياطي الاستراتيجي من الغذاء، ويحمل رقم 6 لسنة 2020م، ودخل هذا القانون حيز النفاذ اعتباراً من تاريخ صدوره، ونشر بالجريدة الرسمية في السادس والعشرين من أكتوبر 2020م.
وعلى المستوى العربي، أصدرت جمهورية السودان قانون جهاز المخزون الاستراتيجي للسلع لسنة 2001م. وتحدد المادة الرابعة منه أغراض الجهاز، بنصها على أن «يعمل الجهاز على تحقيق الأغراض الآتية: (أ) جمع المعلومات عن إنتاج السلع ومتابعتها، (ب) تقدير حجم الاستهلاك وتحديد الفوائض أو العجوزات، (ج) بناء مخزون استراتيجي من السلع، (د) تقديم أحسن الخدمات وتطويرها وفقاً لمبدأ استرداد التكلفة على الأقل وتحقيق فائض للخزينة العامة، (هـ) المساهمة في زيادة الدخل القومي وتحسين أداء الخدمات التي يقدمها، (و) الدخول في الاستثمارات الخدمية التي يعجز القطاع الخاص منفرداً عن الاستثمار فيها». وتحقيقاً لهذه الأغراض، وطبقاً للمادة السادسة من القانون ذاته، تكون للجهاز السلطات الآتية :(أ) توفير التمويل اللازم لتأمين المخزون الاستراتيجي من السلع، (ب) التنسيق مع الجهات ذات الصلة، لتوفير وتأمين مخزون استراتيجي من السلع واتخاذ التدابير اللازمة لسد الفجوة الغذائية من الذرة، (ج) تحديد حجم المخزون الاستراتيجي للسلع، (د) إجراء عمليات الإحلال والتخصيص والتوزيع وفقاً للمعايير والضوابط المقررة، (هـ) البيع في السوق المحلى للولايات في حالة العجز في الإنتاج والتصدير من كميات المخزون في حالة وجود فائض، (و) زيادة سعة التخزين بالبلاد لمقابلة التوسع في الإنتاج والوفاء بمتطلبات التجارة والاستهلاك، (ز) مباشرة كافة التصرفات والأعمال وإبرام العقود والاتفاقيات التي من شأنها تحقيق أغراضه، (ح) استخدام من يرى من العاملين ضرورة استخدامهم وفق أحكام القانون لتمكينه من الاضطلاع بمهامه، (ط) القيام بشراء وبيع وامتلاك العقارات والأراضي وتشييد المباني عليها وصيانتها وإقامة كافة المنشآت اللازمة لتحقيق أغراض الجهاز، على أن يتم ذلك بموافقة الوزير، (ى) أي سلطات أخرى تكون ملائمة لتحقيق أغراضه».
وفى دولة الإمارات العربية المتحدة، وفيما يتعلق بالمستلزمات الطبية، صدر قرار مجلس الوزراء رقم (39) لسنة 2015 في شأن المخزون الطبي الاستراتيجي. وفيما يتعلق أيضأ بالمخزون الطبي الاستراتيجي، صدر عن وزير الصحة ووقاية المجتمع القرار الوزاري رقم (872) لسنة 2016م في شأن المخزون الطبي الاستراتيجي. وبعد أقل من عشرين يوماً على إعلان منظمة الصحة العالمية تحول فيروس كورونا إلى جائحة عالمية، صدر القانون الاتحادي رقم (3) لسنة 2020 في شأن تنظيم المخزون الاستراتيجي للسلع الغذائية في الدولة. كذلك، وفي ظل أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، صدر قرار مجلس الوزراء رقم (63) لسنة 2020 في شأن تجميد كريات الدم الحمراء ومكوناته وفصائل الدم النادرة للحالات الطارئة ولأغراض الطوارئ والأزمات.
وفي دولة قطر، صدر المرسوم بقانون رقم (24) لسنة 2019 بتنظيم وإدارة المخزون الاستراتيجي للسلع الغذائية والاستهلاكية.
وفي مملكة البحرين، وفي جلسته المنعقدة يوم الأحد الموافق الحادي عشر من أبريل 2021م، أحال مجلس الشورى اقتراحاً بقانون بشأن المخزون الاستراتيجي للسلع إلى الحكومة، والذي يضع إطاراً تشريعياً يكفل للجهة الحكومية المختصة وضع نسبة أمان يجب ألا تقل عنها كميات السلع الأساسية والضرورية في السوق، من أجل ضمان عدم نقصانها أو احتكارها أو التلاعب في أسعارها.
قواعد الإدارة الرشيدة للمخزون الاستراتيجي
عند الحديث عن إدارة المخزون الاستراتيجي، فإن أول ما ينبغي أن يسترعي الانتباه هو كيفية احتساب الكمية المطلوبة من السلع الأساسية التي يتعين أن يشملها المخزون الاستراتيجي. وفي هذا الصدد، يمكن حساب الطاقة التخزينية المطلوبة حالياً ومستقبلاً للسلع الأساسية من خلال حساب وتقدير الطلب والاستهلاك الحالي أو المتاح توصلاً إلى حساب وتقدير الكميات المطلوبة للاستهلاك في المستقبل، باستخدام بعض الأساليب الإحصائية والقياسية، كأسلوب الاتجاه الزمني العام، كما يمكن حصر أهم أنواع المخازن الاستراتيجية بالصوامع للحبوب بأنواعها الحديدية والكونكريتية، المسقفات، التخزين المبرد والمجمد للسلع سريعة التلف، والتخزين التقليدي كالحفر والبيوت وخاصة بالنسبة للحبوب والأعلاف.
ومن الناحية العلمية، يقصد بالتخزين حفظ السلع بطريقة سليمة، بحيث تظل محتفظة بخواصها من حيث قيمتها الغذائية وشكلها وحجمها ومنعها من التلف، لحين استهلاكها من قبل مستهلكيها النهائيين. أما من الوجهة التجارية، فيتم النظر إلى التخزين كأداة تنظيمية بين العرض والطلب، وهو بصفة عامة يعد خدمة أو وظيفة اقتصادية وتسويقية تضيف منفعة زمانية وأحياناً مكانية للسلعة عن طريق توفيرها للمستهلك أطول مدة ممكنة بغض النظر عن موعد أو مكان انتاجها. وبصفة عامة، يمكن القول إن للتخزين أهمية اقتصادية وسياسية واجتماعية تتمثل بالحفاظ على السلع المخزونة من التلف طوال فترة خزنها وتنظيم انسيابها للسوق لأطول فترة ممكنة، كما يساعد على الموازنة بين العرض والطلب واستقرار الأسعار بالإضافة إلى طمأنة المواطنين بتوفير احتياجاتهم الاستهلاكية عند الضرورة وفي الظروف الصعبة ناهيك عن الأهمية الأمنية والاستراتيجية في حالة التخزين الاستراتيجي.
ومع التأكيد على أهمية الجوانب الاجتماعية والأمنية وتحقيق الأمن الغذائي، فإن الجوانب الاقتصادية يجب عدم إغفالها في كل الاعتبارات المتعلقة بالخزن بشكل عام والتخزين الاستراتيجي بشكل خاص، وهذا يتطلب الاهتمام ببعض النواحي الاقتصادية، وفي مقدمتها إلزام الجهات المنفذة للطاقات التخزينية بدراسات الجدوى الفنية والاقتصادية، ضرورة التأكيد على زيادة كفاءة استغلال الطاقات التخزينية القائمة المقترحة، توفير قاعدة بيانات دقيقة يمكن على ضوئها مواصلة إعداد الدراسات الفنية والاقتصادية والعمل على إيجاد طرق بديلة للتخزين الحالي، وأخيرا الاستفادة من المخازن التقليدية كبدائل عند الضرورة.
وفيما يتعلق باختيار الموقع الجغرافي الأفضل للمخازن المخصصة للتخزين الاستراتيجي، وتحديد الطاقة التخزينية، ثمة رأيان مطروحان للنقاش؛ أولهما، يرى من الأفضل أن يكون هناك تركز في مواقع المخازن الاستراتيجية، أي أن يكون هناك موقع خزني يتركز في منطقة جغرافية واحدة. أما الرأي الثاني، فيميل إلى عدم التركز في مواقع الخزن وتوزيع المخازن على عدة مناطق. وكلا الرأيين تحكمهما جملة من الاعتبارات لعل من أهمها، الظروف الاقتصادية والسياسية والأمنية والسياسات الانتاجية والاستيرادية والتوزيعية وكفاءة النقل الداخلي والخارجي، إضافة إلى بعض السياسات الدولية كتلك المتعلقة بالسياسات الاحتكارية والنزاعات و(WTO) وغيرها. ويتوسط البعض بين الرأيين السابقين، معبراً عن ميله إلى اتباع سياسة التركيز غير العالي، كأن توزع الدولة إلى ثلاث مناطق مختلفة، ويُنشأ موقع خزن استراتيجي واحد في كل منطقة من هذه المناطق، يراعى فيها سهولة تغذية هذه المخازن وسهولة توزيع الخزن الاستراتيجي على المخازن الفرعية والوكلاء في المنطقة التي يخدمها المخزون، إضافة إلى ضمان تحقيق الجوانب الأمنية في الحفاظ على هذه المخازن وأن تكون بعيدة نوعاً ما عن التجمعات السكنية مع ضمان توفير كافة المستلزمات لتشغيلها وتوفير وسائل الحماية الكاملة (د. هاشم النعيمي، المخزون الاستراتيجي ومعايير اختياره، جريدة الخليج، الشارقة، اقتصاد، آراء وتحليلات، 5 أغسطس 2010م). ومن الواضح أن هذا الرأي يراعي المساحة الجغرافية لدولة الإمارات العربية المتحدة، ولذلك حدد عدد مناطق التخزين بثلاث مناطق فقط. وغني عن البيان أن عدد مناطق التخزين يختلف زيادة ونقصاناً بحسب مساحة الدولة المعنية، وما إذا كانت كبيرة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين أو كانت متوسطة مثل السعودية والجزائر والسودان ومصر وجنوب أفريقيا ونيجيريا أو كانت صغيرة مثل جزر المالديف وسان مارينو وموناكو وجزر مارشال.
ومن ناحية أخرى، يبدو من الضروري وضع استراتيجية أو سياسة محددة لإدارة المخزون الاستراتيجي، من حيث كمية السلعة المخزونة وأسلوب توفيرها والمحافظة عليها وطريقة توزيعها، الأمر الذي يتطلب إيجاد هيكل تنظيمي مركزي في الدولة يرتبط بجهة متخذة للقرارات المتعلقة بالمخزون الاستراتيجي وحصرها بها، وذلك بإيجاد نوع من التنسيق الإداري والفني بين الجهات المسؤولة عن المخزون الاستراتيجي، والجهات المسؤولة عن الخزين العادي (العامل) لتسهيل مهمة تنظيم انسياب السلع والمحافظة عليها وصيانة وتشغيل المخازن بالطاقات التصميمية لها، تطور إقامة الطاقات الخزنية الاستراتيجية بشكل مواز ومواكب لإعداد الكوادر الإدارية والفنية المطلوبة لتشغيل وصيانة المخازن، عدم إغفال التنسيق والتكامل الإقليمي في مجال التخزين الاستراتيجي والتخطيط له مع الدول المجاورة والصديقة.
ونظراً لأهمية الموضوع، نلفت إلى ضرورة الاستفادة القصوى من الإعلام في خلق حالة من الرضا لدى الجمهور بقدرة الدولة على توفير متطلبات الحياة في الظروف كافة، وبالأخص في فترات الظروف القاهرة، والتي غالباً ما تقترن بحالة من الفوضى وانتشار الإشاعات الرامية إلى بث الخوف والقلق في نفوس الأفراد. بالإضافة إلى ذلك، نرى من الملائم تشجيع إجراء المزيد من الدراسات والبحوث والندوات التي يفترض أن تشترك فيها وزارات الدولة ومؤسساتها كافة، بما يحقق صورة نهائية متكاملة لموضوع الخزن الاستراتيجي، سواء لدى الجهات المنفذة أو لدى المواطنين باعتبارهم المستفيدين والمستهلكين النهائيين للسلع الأساسية المشمولة بالمخزون الاستراتيجي.
وفي ظل الأزمة الاقتصادية الحادة التي مرت بها مصرنا الحبيبة في بعض الفترات، نرى من الملائم أن نشير إلى بعض الوسائل الكفيلة بتقليص المصاريف الحكومية على الاحتياطي الاستراتيجي، والاستفادة من تجارب بعض الدول العربية في هذا الشأن. فعلى سبيل المثال، تجيز المادة الرابعة من قرار مجلس الوزراء الإماراتي بشأن المخزون الطبي الاستراتيجي للجهة الصحية في حدود اختصاصها الجغرافي، إبرام اتفاقيات مع المنشآت الصحية والمؤسسات الصيدلانية الخاصة وأي منشأة أو مؤسسة أخرى، لتوفير الكميات اللازمة من الأصناف التي يشملها المخزون الطبي الاستراتيجي، على أن تحدد هذه الاتفاقيات كيفية إدارته بحيث تشمل مدة تخزين تلك الكميات والاحتفاظ بها وأسلوب تدويرها والإجراءات التي يجب اتباعها عند استخدام هذا المخزون. وفيما يتعلق بالسلع الغذائية، يبدو من الضروري وجود آلية معينة لإشراك الشركات الكبرى بهذا المجال في تحمل مسؤولية الاستفادة من مخازنها لتحقيق أهداف الخزين الاستراتيجي في الظروف الطارئة.
وأخيراً، لا تكتمل منظومة الحوكمة الرشيدة للمخزون الاستراتيجي بدون ممارسة البرلمان رقابة حقيقية على الإجراءات الحكومية بشأن بناء المخزون الاستراتيجي وإدارته وتدويره والسحب منه.