في دوحة الإسلام (82)
في دوحة الإسلام (82)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 2/9/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
الاحتكار ليس من الإسلام
نرى في الدول والمجتمعات الحديثة، عناية منذ سنين بمنع الاحتكار ومقاومته، وامتدت هذه العناية إلى سن القوانين، وإنشاء الأجهزة المتخصصة لمنع الاحتكار والمساءلة عليه !
إلى ذلك سبق الإسلام من أربعة عشر قرنًا.
روى بإسناده أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: « لا يحتكر إلاَّ خاطئ ».
والحكر لغةً هو الظلم وإساءة المعاشرة، ومعناه اصطلاحًا هو احتباس الشيء انتظارًا لغلائه، وهو غلاء يساهم فيه الاحتكار ذاته، لأنه يقلص المعروض إزاء الطلب عليه، فيرتفع ويغلو ثمنه.
وهو لذلك ضربٌ من ضروب الاستغلال والانتهازية.
ولأن قوام الإسلام المحبة والإخاء، والتكامل والتساند، فقد حرص على رباط المجتمع بأفراده برباط الوئام والمودة والتعاون.
اقتضاه ذلك ـ الحض على الإيثار والنهى عن الأثرة.. فالمسلمون يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة أي حاجة، واقتضاه النهى عن كل صور الاستغلال، بتطفيف الموازين، أو بالحجز أو بالاحتكار، أو أن يبيع حاضر لبادٍ ـ أي إلى قادم غريب لا يعرف أسعار الحاضرة فيستغله البائع، ودعا الإسلام من ثم إلى نبذ الطمع والجشع والغش، والاستغلال وانتهاز الفرص، لإعنات الناس والتكسب منهم بغير حق !!
عن أبى هريرة، رضى الله عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
« من احتكر حكرة يريد أن يغلّى بها على المسلمين فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله ورسوله ».
وفي حديث آخر بذات المعنى، يقول الهادي البشير عليه الصلاة والسلام:
« من دخل في شيء من أسعار المسلمين يغلّى عليهم، كان حقًّا عليه أن يقذفه الله في جهنم »
فمغنم الاحتكار مغنم حرام، لأنه حاصل انتهازية واستغلال بغيض، لا يتفقان مع روح الإسلام وأحكامه !
الاحتكار يزيد ويُربى ثروات المستغلين، ويهضم ويغتال اغتيالاً حرامًا حقوق الناس !! ويدفع دفعًا إلى الأنانية البغيضة والانحصار في الذات ؛ طلبًا لمغانم باطلة على حساب الحق والإنصاف !
من صور الاستغلال البغيض الذي نهى عنه الهادي البشير عليه الصلاة والسلام، بيع الحاضر لبادٍ، وهو أن يستقبل الحضري ـ البدوي القادم من البادية، ويعاجله فور وصوله وقبل أن يحيط بالأوضاع السائدة، فيغرر به، ويوهمه كذبًا بغير الحقيقة.. إما ليبيعه بثمن مغالٍ فيه لا يتفق والثمن الجاري، أو يشترى منه ـ غشًّا ـ بثمن بخس !
كذلك حبس أقوات الناس، وهو من أشد صور الاحتكار بُغْضًا واستغلالاً.. وأولاها بالشجب والنهى والتحريم !! لأنه يتلاعب بحيوات الناس وأمس حاجاتهم !!
أطيب الكسب الكسب الحلال.. وأبوابه مفتوحة، مندوب إليها في الإسلام.. يقول تعالى في كتابه العزيز:
« هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ » ( الملك 15 ).
الكسب المشروع حلال مطلوب..
والاحتكار والاستغلال جشع بغيض، وحرام مكروه.
يقول الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام:
« الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون ».
وصدق علية الصلاة والسلام إذْ يقول:
« أيها الناس ؛ اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإنْ أبطأ، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب.. خذوا ما أُحل ودعوا ما حُرّم عليكم ».
صدق رسول الله.
من آيات الصبر
ابتلى الله تعالى عباده ـ ابتلاهم أي امتحنهم بالنعم كما ابتلاهم بالمحن، وقال في كتابه العزيز:
« وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ » ( الأنبياء 35 )
وأخبر الله عز وجل في كتابه العزيز بأنه خَلَقَ العالم العلوى والسفي، وقَدَّرَ أجل الخَلْق، وخلق ما على الأرض للابتلاء والاختبار.
قال تعالى:
« تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَملاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ » ( الملك 1، 2 )
وقال عز من قائل:
« فَأَمَّا الإنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ » ( الفجر 15، 16 )
هذا الابتلاء اختبار لصبر العبد، في الخير وفي الشر، وفي السراء والضراء.
والصبر على طاعة الله أشق الصبرين، كما قال الصحابة رضى الله عنهم: ابتُلينا بالضراء فصبرنا ـ وابتُلينا بالسراء فلم نصبر.
لذلك فإن النعمة بالفقر والمرض وفيض الدنيا وأسبابها، قد يكون أعظم النعمتين، وفرض الصبر والشكر عليها أوجب من الشكر على أضدادها.
فالله تعالى يَبْتلى بنعمه، ويُنْعم بابتلائه.
والصبر والشكر حالتان لازمتان للعبد في أمر الله ونهيه، وقضائه وقدره، لا يُستغنى عنهما طرفة عين.
وجُماع الفضلين: فضل الصبر وفضل الشكر، في التقوى.. فالله سبحانه وتعالى لم يفضل بالفقر والغنى، ولا بالعافية والبلاء، وإنما فَضَّل بالتقوى..
قال تعالى: « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ » ( الحجرات 13 )
وقال صفيه الهادي البشير ـ عليه الصلاة والسلام:
« لا فضل لعربي على عجمي، ولا فضل لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر ـ إلاَّ بالتقوى.. كلكم لآدم، وآدم من تراب ».
عيادة المريض
وإطعام الجائع
وسقاية العاطش
أورد الإمام مسلم بسنده، عن أبى هريرةَ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن الله ـ عز وجل ـ يقول يوم القيامة: « يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال: أما علمت أن عبدى فلانًا مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه ؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال: استسقاك عبدى فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي ».
ترى في القيم الأخلاقية والمناقب التي حض عليها الإسلام ـ نرى كثيرًا من الوصايا والحوافز والترغيب في عيادة المريض، وإطعام الجائع، وسقاية الظامئ. ولكننا لن نرى قط أجمل مما حمله إلينا هذا الحديث القدسي الذي رواه النبي عن ربه سبحانه وتعالى.
فليس أجمل، ولا أروع، ولا أبلغ قيمة وقداسة، أن يلمس هذه العناية الربانية.. أن عيادة المريض وكأنها عيادة لله عز وجل، لا لأن الله تبارك وتعالى يمرض وحاشاه، وإنما لأن من سيعود المريض سيجد الله تعالى عنده يكلأه برحمته، وأن من يطعم جائعًا سيجد ثواب هذا الإطعام والبر عند الله عز وجل، مثلما سيجد هذا الفضل والثواب عنده حينما يسقى ظامئًا ويروى عطشه..
روى بسنده عن الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام، أنه قال: « من عاد مريضًا لم يزل في خُرفَةِ الجنة حتى يرجع ».. أي يؤول به ذلك إلى الجنة واجتناء ثمارها.
وعنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال:
« ما من مسلم يصيبه أذًى من مرض فما سواه إلاَّ حطَّ الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها ».
رحمة الله تعالى واسعة، تشمل كل عباده، وتعنى بكل من كان به ضعف من مرض أو شيخوخة أو فقر أو إملاق أو حاجة، ممن اعتبرهم الإسلام « ودائع الله » في عنق كل مؤمن قادر على العون والمساعدة.
روى بإسناده عن الرحمة المهداة، الذي أرسله ربه رحمةً للعالمين، قوله:
« ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَب ولا سُقْم ولا حزن حتى الهم يهمه ـ إلاَّ كُفِّر به من سيئاته ». صدق رسول الله