في دوحة الإسلام (79)
في دوحة الإسلام (79)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 11/8/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
« كذلك قال ربك هو علىّ هيّن »
يروى لنا القرآن الكريم ما كان من النبي زكريَّا عليه السلام مع ربه تبارك وتعالى.. كان زكريا عليه السلام قد تقدمت به العمر، وهرم دون أن يُرزق بولد من صلبه، وكان ذلك يضنيه، ولكن الله تعالى الذي لا تخفي عليه خافية، ويعلم ما في الصدور، ناداه فيما يروى القرآن الكريم..
« يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا »
( مريم 7 )
على سروره وبهجته، استكثر أن يُرزق بولدٍ وقد شاخ هو وزوجته العاقر، فنادى ربه عز وجل فيما يرويه القرآن الكريم:
« قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا » ( مريم 8 )
أتاه الجواب على تسآله.
« قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا » ( مريم 9 )
الله عز وجل هو القادر المقتدر ؛ لا يعجزه شىء في الأرض ولا في السماء، ويأتى بما بين ذلك تغييرًا أو تبديلاً أو إعادة. والخَلق مخلوق بقدرته جل شأنه، فهو سبحانه وتعالى خَلق الكون وأبدعه، وهو الذي خلق الإنسان وسوّاه فعدله، وسوّى ما في الكون من خلائق وكائنات، وسير نظام الحياة على هذا النهج البديع المعجز للأفهام.. كل ذلك بقدرته العلوية التي تتعلق بها كينونة المخلوقات والأفعال والأشياء..
يقول الخالق البارئ في كتابه العزيز:
« إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » ( يس 82 )
« إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ » ( النحل 40 )
« سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ » ( مريم 35 )
بذلك جاء الجواب إلى زكريا.. فقد خلقه الله تعالى من قبل ولم يك شيئًا، فما غرابة أن يرزقه بيحيى وامرأته عاقر وبلغ هو من الكبر عتيًّا.
هذا شأنه عز وجل، لا تغيير ولا تبديل فيه، يقول للشيء كن فيكون، لا تقيّده الأسباب التي تقيّد البشر وكافة المخلوقين، ومن ثم فإنه ليس غريبًا أن يهب زكريا ما تمناه في داخله، وأن يرزقه على الكبر « يحيى »، وقد كان.
هل فات ذلك على زكريا ـ عليه السلام، وهو نبي مبعوث من ربه ؟!
لم يكن ذلك ليفوته، وإنما هو استفهام كاستفهام إبراهيم الخليل ـ عليه السلام الذي سأل ربه أن يريه كيف يحيى الموتى، لا مجادلةً ولا إنكارًا، ولكن ليطمئن قلبه، وكسؤال الحواريين للمسيح بن مريم ـ عليه السلام، أن ينزل عليهم ربهم مائدةً من السماء، لا استكبارًا ولا إنكارًا، ولكنهم يريدون أن يأكلوا منها وتطمئن قلوبهم ويكونون على ذلك من الشاهدين، ولتكون لهم عيدًا لأولهم وآخرهم، وآية منه.
أتى إلى زكريا عليه السلام بيان ربه..
« قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا »
( مريم 9 )
فالله تعالى الذي خلقه وخلق آدم من قبله من العدم، لقادر على أن يزرقه بيحيى رغم شيخوخته وعَقُمْ زوجته. فهو سبحانه وتعالى القادر المقتدر، الخالق البارئ، المحيي المميت، الواجد الباعث.. إذا أمر سبحانه بشيء فنفاذه فورًا ـ بـ « كن » ـ في لمح البصر..
يقول تبارك وتعالى في كتابه المبين:
« إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ » ( القمر 49، 50 )
صدق الله العظيم
كذب المنجمون ولو صدفوا
شاع لدى الناس في الجاهلية، اللجوء إلى التنجيم والمنجمين، لاستطلاع النجوم أو الودع أو الكف أو غير ذلك، بدعوى معرفة الغيب واستطلاع المستقبل.
جاء الإسلام ليعلم الناس أنه لا يعلم الغيب إلاَّ الله، وأن هؤلاء المنجمين كذبةٌ أدعياء..
قال تعالى:
« وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ » ( الأنعام 59 )
وقال عز وجل لنبيه المصطفي عليه الصلاة والسلام:
« قُل لاَ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ »
( النمل 65 ).
صدق الله العظيم
وبهذا رد المصطفي عليه الصلاة والسلام ـ بأمر ربه ـ على المشركين والمعاندين، يقول له تبارك وتعالى:
« قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » ( الأعراف 188 )
وفي سورة الأنعام، يقول سبحانه لرسوله المصطفي:
« قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ » ( الأنعام 50 )
وكَذَّب الهادي البشير هذه الترهات، فكان عليه الصلاة والسلام يقول:
« من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدّق بما يقول ـ فقد كَذَّب بما أنزل على محمد ».
وروى البخاري ومسلم بأسانيدهما، أن الهادي البشير وصف المؤمنين بأنهم:
« الذين لا يتطيرون ـ أي لا يتشاءمون، ولا يسترقون ولا يكتوون ـ أي لا يستعملون الرقى والكى، وأنهم على ربهم يتوكلون ».
الرقى والتمائم وأشباهها شرك، كذلك من « التولة » ـ وهى نوع من السحر كانت النساء تلجأن إليه في الجاهلية ليتحببن إلى أزوجهن.
الإسلام توحيد واتجاه إلى الله، لا إلى سواه.
والإسلام دين العقل والتفكير، لا دين الرقى والتمائم وقراءة النجوم..
من آمن بالله حقًّا، لا يلجأ إلى هذه الترهات التي نهى عنها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
اللهم انصرْ خبَّابًا
كانت أم أنمار امرأة من خزاعة، قد اشترت « خبّاب بن الأرت » الذي خُطف وهو غلام من قبيلته بنى سعد، وبيع في سوق النخاسة بمكة، فاشترته، وعاش في بيتها بمكة سنوات يخدمها، ويعمل بالحدادة ليقتات.
وإذْ أتتها الأخبار من قريش بأن عبدها « خبّابًا » قد صبأ وتابع محمدًا وآمن به، استشاطت غضبًا، وأمرت غلمانها بربط « خبّاب » إلى عمود ببيتها، وأمرت بالكور فأشعل بالنيران، وجعلوا يلقون فيه بالحديد حتى يحمر، فيبادرون به إلى ظهر « خبّاب » يكوونه بالحديد !
جعل غلمان أم أنمار يشتدون عليه بالتعذيب، ويلصقون ظهره العارى بالحجارة والحدائد المحماة، ولا يتركونه إلاَّ إذا غاب عن الوعى، فإذا أفاق لا حقوه بالتعذيب !
فشلت كل محاولات أم أنمر لإثنائه عن الإسلام، فتوقفت وغلمانها يأسًا، وتحينًا لدفعة أخرى من العذاب.
لحق خبابٌ بالنبى عليه الصلاة والسلام في ظل الكعبة، وأطلعه عيه السلام على جسده الذي تقرح من التحريق بما يشبه البرص، فطفق النبى عليه السلام يواسيه ويدعوه والمَعَّذبين إلى الصبر على ما يلاقونه من الطواغيت، ويقول لهم مشجعًا:
« ليظهرنَ الله تعالى هذا الدين حتى يسير الراكب من « صنعاء » إلى « حضرموت لا يخشى إلاّ الله عز وجل والذئب على غنمه !! »
ورفع عليه الصلاة والسلام كفيه إلى السماء داعيًا: اللهم انصر خبَّابًا.
- أحيانًا ما تكون الدموع سطورًا من نور، تضىء حنايا القلوب !
- فارق كبير بين الشريف والوضيع..
الأول إذا ارتفع تواضع،
والثاني إذا خايله علوٌّ يملأه الكبر والخيلاء !
- قد لا يأمن الأخيار من بعض الزلل؛
ولكن علمهم بالله عز وجل، لا يدعهم حتى يرجعوا إليه بالتوبة والإنابة.
- من الحكم العطائية: « مطلب العارفين من الله ـ الصدق في العبودية والقيام بحقوق الربوبية ».